قد يتناول القارئ الكريم جريدته ويقرأ هذا الموضوع وهو يتمتع بما منحه المكيف الهوائي من جو منعش.. وقد لا يصدق أن ما يقاسيه جزائريون في درجة حرارة تجاوزت الخمسين هو حقيقة أشبه بالخيال.. ولكنه لو غامر وخرج في منتصف النهار إلى ولاية داخلية وبحث عن المعذبين في الدرجات الحرارية القصوى والمهن المستحيلة شتاء فما بالك في الحرور، لعلم أن الاستعباد مازال موجودا، ولكن المستعبد هو الذي تغيّر وهو لقمة العيش التي جعلت من بعض الناس يعيشون مع الأفاعي ومع صمت الضحى الرهيب في أقوى درجات الحرارة وفي أقوى المهن شقاء. * حديث كثير عن تشغيل الأطفال والبنات وحديث طويل عن تشغيل المعوقين، ولكن القليل فقط من يتكلمون عن الباحثين عن لقمة العيش وسط لهيب الصيف أو أصحاب الواجب الذين يحترقون لأجل انتعاش الآخرين، أو الذين لا يعلمون أن أشعة الشمس التي تلهب أجسادهم إنما هي جواز سفر وتأشيرة نحو أخطر الأمراض ومنها سرطان الجلد. * * رجال الدرك في المدن الساحلية ممنوع عنهم العطلة.. ورجال المطافئ يقاومون النار في النار * هل توجد إجراءات خاصة لحماية رجالكم من لفح النار الحارقة في هذا الفصل الاستثنائي؟ سؤال طرحناء على الملازم نورالدين طافر قائد بالحماية المدنية بمنطقة قسنطينة.. فابتسم وقال إن عناصر الحماية المدنية غالبية تدخلاتهم نارية سواء في الصيف أو في قرّ الشتاء.. وإذا كانت سيارات الإسعاف مكيفة جميعها الآن، فإن مصالح الحماية المدنية تشتغل بشكل عادي في أيام الحر الكبير ولا توجد سوى عملية تنظيم إدارية، وهي العمل بالمناوبة صيفا لأجل إبعاد رجل الإسعاف عن ضغط العمل بسبب طول يوم الصيف والحرارة الشديدة ومن أجل محافظته على التركيز.. أما عن لباس رجل الإطفاء فهي واقية ضد الحرارة.. أما رجال الدرك الوطني الذين دخلوا في تطبيق مخطط دلفين والذين يتعرضون بسبب الحواجز الكثيرة الموجودة في كل الطرقات الجزائرية بما في ذلك التي تتوسط صحراء الجزائر الكبرى حيث درجة الحرارة تناهز الخمسين تحت الظل فما بالك تحت أشعة الشمس في وقت الظهيرة، وقال لنا مصدر مسؤول أنه تقرر عدم الموافقة على طلبات العطلة السنوية بالنسبة لرجال الدرك الوطني خلال أيام فصل الصيف بالنسبة للعاملين على مستوى الشريط الساحلي ولن يتمكنوا من الحصول على عطلهم إلا خلال شهر سبتمبر.. ورجال الدرك الوطني يعلمون أن أهم عمليات الإجرام من تهريب وتحركات مشبوهة وتحركات بارونات المخدرات تنشط في زمن القيلولة والحرارة الشديدة ظنا من المجرمين أن الأعين مغمضة، وهو ما يجعل نشاط رجال الدرك يبلغ ذروته خلال هذه الفترة، أي أنهم يكونون عرضة للهيب الحر الذي لا يقاوم، كما أن اللباس الواقي للرصاص "جيلي أونتي بالذ الذي يرتديه رجال الدرك الوطني متميز بكونه ساخنا جدا وهو يرفع من درجات حرارة لابسه شتاء فما بالك في فصل الحر.. ويبقى همّ مصالح الدرك هو تأمين تنقل الناس في عطلتهم بشكل سلمي خاصة بعد أن دخل الجزء الأكبر من الطريق السيار شرق - غرب الخدمة.. ما علمناه أن رجال الدرك الوطني الذين نشاهدهم بكثرة في الطرقات خلال فصل الصيف لا يتوفرون على تغطية صحية خاصة واستثنائية مثل المصحات المتنقلة، وإذا كانت مكاتبهم التي لا يعملون فيها إلا نادرا مكيّفة في معظمها فإن خروجهم إلى الطرقات هو العمل تحت درجات حرارة مرتفعة جدا.. وإذا تعرض رجل الدرك لضربة شمس فإنه ينقل إلى المصحات العمومية.. وأكد مصدر مسؤول بأنه لم تسجل أبدا حالات خطيرة في صفوف رجالات الدرك خلال اليومين الحارين الأخيرين.. ومع ذلك في صائفة 2003 خلال زيارة قام بها رئيس الجمهورية إلى ولاية ڤالمة في العشرين من شهر ماي تعرض ثلاثة من رجال الدرك كانوا يؤمّنون زيارة الرئيس عبر طرقات الولاية لضربات شمس نقلتهم إلى المستشفى في كالة خطيرة. * * الخبازون.. جنتهم في الشتاء ونارهم في الصيف * رمضان يعتبرونه جهادا.. والليل حوّلوه إلى نهار * * وقعت في ولاية ورڤلة منذ ست سنوات مشادات عنيفة بسبب مشروع مخبزة.. حيث رفض سكان عمارة جديدة أن يفتح صاحب محل سفلي مخبزة تحت مساكنهم، وتمكنوا من إفشال المشروع بسبب قولهم في العريضة الاحتجاجية بأنهم يقبلون أن يموتوا جوعا محرومين من الخبز على أن يموتوا حرقا صيفا بسبب هذا الفرن الذي سيجعل من حرارة أوت أكبر من التحمّل.. الخبازون أيضا يعانون خلال فصل الصيف.. ولأن معظم خبازي ولاية العاصمة من الصنّاع هم من الشباب القادم من ولايتي جيجل وميلة فإنهم يفضلون أخذ عطلتهم السنوية في عز الحر والعودة إلى قراهم الساحلية.. ولكن أرباب الخبز لا يفرطون في العمل في رمضان الذي يتزامن هذا العام مع أيام شهر أوت، ويعتبر شهر الصيام هو موسم العمل الكبير بالنسبة لكل الخبازين الذين دخل الآن الكثير منهم في عطلة سنوية استعدادا للعودة بمناسبة الشهر المعظم، لأنهم يستفيدون من بيع الخبز المحسّن وخاصة الحلويات، وكلها أرباح مضمونة.. وإذا كانت بداية الشهر الفضيل تسمح لهم بمباشرة العمل ليلا إلى غاية وقت السحور فإنهم في الأسبوع الأخير من رمضان الذي سيتزامن هذه المرة مع الأسبوع الأول من شهر سبتمبر الذي لا تنزل فيه الحرارة عن 35 درجة في معظم المدن الجزائرية على أن يعملوا ليلا ونهارا من أجل حلويات العائلات الجزائرية وخبز الدار كما يسمى في عدة مناطق.. حمزة الربيع وهو أحد أشهر الخبازين بسبب قضائه نصف قرن في مهنة المخابز قال إن الخبازين يعتبرون فصل الصيف إذا تزامن مع شهر رمضان جهادا أكبر، وقال إنه عندما يكلم أصدقاءه الخبازين في الصيف يلغي كلمة العمل ويقول كلمة جهاد.. النعمة التي يتمتع بها الخبازون في درجات الحرارة المنخفضة تتحول إلى جحيم حاليا في فصل الصيف، وقال إن التكنولوجيا الحديثة مازالت عاجزة عن ابتكار مكيفات يمكن وضعها في الأفران أو طهي الخبز من دون نار لأجل ذلك لا أحد يعرف النار مثل الخبازين.. وهو عمل يشبّهونه بعمل المناجم الذي مازال يضع عماله في أخطار صيفية عندنا يجد العامل نفسه مخنوقا داخل المنجم ومخنوقا خارجه.. ولأن الخبز مهنة شتوية فإن الخبازين الجزائريين سيدخلون في أكتوبر القادم في مسابقة وطنية لأجل المشاركة في شهر فيفري عام2011 أي في فصل البرد في المسابقة المغاربية للخبازين في الدارالبيضاء * * صيحة حفاري القبور.. "أرجوك لا تمت صيفا" * رعاة صغار ماتت ماشيتهم.. وقاوموا هم جهنم * * مازال الجزائريون يفضلون دفن موتاهم في الظهيرة، والسير في الجنائز وأيضا داخل المقابر الكبرى قد يستهلك ساعتين من الزمن، يجد المعزون والمواسون وأهل الميت أنفسهم تحت حرارة لا تقاوم في غياب الأشجار أو أي مكان تحت الظل، ولأن المشي في الجنائز بطيء جدا وفيه التوقفات في زمن الدفن وقراءة الفاتحة فإن المخاطر تزداد، وعمال المقابر يجدون صعوبة كبيرة في التعامل مع الجنائز خلال فصل الصيف الحار وجنائز الظهر وحتى العصر، وهو ما يجعل حفاري القبور ومرتلي القرآن وغيرهم من عمال المقابر يعيشون الويلات المناخية في شهري جويلية وأوت. * وإذا كان الفلاحون المتمرسون يتقنون التعاون بخبرتهم الكبيرة مع الأرض ومع الأرصاد الجوية مع الحرارة، فإن دخول الشباب وحتى الأطفال عالم الفلاحة والبحث عن الجني السريع للمحاصيل الزراعية المطلوبة بكثرة في فصل الصيف مثل البطاطا والعنب والبطيخ والطماطم يعرضهم لضربات الشمس، حيث وقعت كارثة في الطارف عندما توفي صبي كان يجني رفقة والده الطماطم الموجهة للتصنيع.. وحكاية سامي وهو راع في سن 12 ابن ولاية ميلة الذي هلكت ثلاثة من أغنامه وقاوم هو الموت بسبب الحرارة الشديدة، تؤكد أن الأطفال هم الأكثر عرضة لمخاطر الشمس في هذا الحر، سواء في الشمال أو في الجنوب، حيث ثورة الأرض تمنح مزيدا من المخاطر من عقارب وأفاع سامة تطارد الناس تماما كما تطاردهم الشمس الحارقة. * * الأسواق الشعبية تفترش الأرض وسقفها الشمس وأصحاب الأوزان "القنطارية" من دون متابعة صحية * * مازالت الأسواق الشعبية في الجزائر محافظة على وجودها، ومازالت بذات الهيئة غير النظامية تفترش الأرض في الحراش وفي تاجنانت وفي الخروب وفي بوسعادة وفي مغنية كما كانت منذ قرن من الزمن، ويزداد نشاطها مع فصل الصيف خاصة في السنوات الأخيرة مع اكتساح السلع الصينية رخيصة الثمن أسواق الجزائر، وهو ما جعل هذه الأسواق تنتعش مثلها مثل أسواق الشيفون التي تقدم للمهاجرين مالا يجدونه في أوربا وفي كندا وفي فرنسا بالخصوص.. ومشكلة الأسواق أنها توجد في الخلاء في قطع أرضية لا شجر فيها ولا أحراش، وتتواصل إلى ما بعد الظهر وأنشط أوقاتها في الضحى. وإذا كان البائع قد أخذ احتياطاته بسبب تواجده في مكان مليء بالظلال، فإن الزبون مجبر على السير في أقوى نيران أشعة الشمس.. ولأن الصيف خطير على بعض المرضى المزمنين فإن أصحاب الأوزان الثقيلة من الذين يحملون القناطير من اللحوم والشحوم في أجسامهم يعانون في صمت في غياب أي تكفل صحي بهم.. ومعلوم أنه في أوربا جمعيات تعني بالبدينين وتنصحهم وتتكفل بهم في أماكن خاصة ومكيفة خلال أوقات الحر الكبيرة.. أكيد أن هؤلاء ليسوا وحدهم، فالذين يتحدون قساوة الطبيعة كثيرون، بمن في ذلك النسوة اللائي يخبزن الرغيف في أكواخ غير مكيفة.. ولكن لكل هؤلاء رب يحميهم.