إنعاش الاقتصاد الوطني مرهون بتحريك الأموال الراكدة في البنوك و في السوق الموازية , تحريكها في أكثر من اتجاه لإنتاج القيمة المضافة , و لا سيما في تمويل الاستثمار لتنمية الإنتاج الوطني , و في تشجيع استهلاكه محليا أو تصديره قدر الإمكان , و هو ما تسعى إليه الحكومة من خلال برنامجها الذي من شأنه تحفيز المتعاملين على استثمار المزيد من أموالهم للرفع من طاقة إنتاجهم و تنويعه , و تحسين نوعيته , و طمأنة أصحاب الأموال (المكنوزة) على استثماراتهم في مشاريع التنمية بفضل فتح مجال التمويلات الداخلية غير التقليدية , و هو الإجراء الذي اقترحه رئيس الجمهورية في أكثر من مناسبة , كبديل عن اللجوء مجددا إلى الاستدانة الخارجية , التي عمل طيلة العقدين الماضيين على التخلص من أعبائها و من قيودها على وجه الخصوص . وبناء على توجيهات رئيس الجمهورية صادقت الحكومة ثم مجلس الوزراء على مشروع تمهيدي يتعلق بتعديل قانون القرض والنقد لفتح المجال لاعتماد التمويل غير التقليدي لتغطية عجز الميزانية و إنعاش الاقتصاد بصورة استثنائية لمدة 5 سنوات وذلك ضمن مادة إضافية تحت رقم 45 مكرر نصت على ما يلي : «بغض النظر عن كل حكم مخالف، يقوم بنك الجزائر، ابتداء من دخول هذا الحكم حيز التنفيذ، بشكل استثنائي ولمدة (5) سنوات، بشراء، مباشرة عن الخزينة، السندات المالية التي تصدرها هذه الأخيرة، من أجل المساهمة على وجه الخصوص في: تغطية احتياجات تمويل الخزينة - تمويل الدين العمومي الداخلي - تمويل الصندوق الوطني للإستثمار. وتوضع هذه الآلية حيز التنفيذ لمرافقة إنجاز برنامج الإصلاحات الهيكلية الإقتصادية والميزانية التي ينبغي أن تفضي في نهاية فترة الخمس سنوات كأقصى تقدير، إلى استعادة: توازنات خزينة الدولة، وتوازن ميزان المدفوعات تحدد آلية متابعة تنفيذ هذا الحكم من طرف الخزينة وبنك الجزائر عن طريق التنظيم». ويبقى هذا البديل عن الاستدانة الخارجية , مجرد إجراء ضمن سلسلة إجراءات مصاحبة كترشيد الميزانية و التحكم في الواردات حفاظا على احتياطات الصرف التي تراجعت من 193 مليار دولار في 2014 إلى 105 ملايير دولار منتصف السنة الجارية 2017 , فضلا عن سلة الإصلاحات التي تضمنها برنامج الحكومة المنتظر عرضه على البرلمان , و من خطوطه العريضة , إصلاح الادارة الجبائية على نحو يساهم في تحسين التحصيل ؛ ووضع جباية محلية ؛ وتسيير متعدد السنوات لميزانية الدولة ؛ وترشيد النفقات العمومية من خلال تحديد أقصى لنفقات التسيير على مستوى ايرادات الجباية العادية فقط ؛ وإصلاح سياسة المساعدات العمومية . كما حدد برنامج الحكومة عددا من الأولويات من بينها : مواصلة تحسين البيئة المناسبة للأعمال؛ وتشجيع و تسهيل الاستثمار في كل القطاعات , عن طريق المتعاملين العموميين و الخواص و الشراكات المختلفة ؛ ومواصلة إنجاز برامج التجهيز العمومية التي تم اعتمادها في السنوات الأخيرة ،و كذا استكمال الدراسات المتعلقة بالمشاريع المؤجلة . كما يشجع برنامج الحكومة كل صيغ الشراكات سواء بين القطاعين الخاص و العام أو فيما بين الشركات العمومية, أو مع الشركاء الأجانب. وأكدت الحكومة في المخطط على مجموعة من النقاط الاساسية ؛ كتشجيع الصادرات خارج المحروقات؛ و تحفيز و تسهيل الاستثمار المنتج للسلع و الخدمات و كذا الحفاظ على المزايا المنصوص عليها في قانون الاستثمار ؛ وتعزيز التقييس و الاندماج الاقتصاديين ؛ وتطوير الطاقات المتجددة و تنمية اقتصاد الطاقة ؛ وتطوير صناعة المحروقات في مراحلها النهائية ؛ وكذا الصناعة المنجمية و السياحة و الصناعات التقليدية و مواصلة التنمية الفلاحية و الريفية و الموارد الصيدية ,مع الإبقاء على كافة برامج الدعم الفلاحي التي وضعتها الدولة منذ 2009 ,و توسيع المساحات الفلاحية المسقية إلى حدود مليون هكتار. أما على المستوى الاجتماعي،فان الحكومة حرصت على التأكيد على الطابع الاجتماعي و العدالة الاجتماعية و على تحسين مجالات التعليم و الصحة مشيرة أن البعد الاجتماعي يمثل أحد أسس الدولة، و أنه بالإضافة إلى الجهود المبذولة لتقليص البطالة بما في ذلك لفائدة الشباب و الأشخاص بدون تأهيل و النساء الماكثات في البيت ،فإنها تسهر على ضمان حماية حقوق الأطفال و مواصلة سياستها في مجال التحويلات الاجتماعية و الإعانات المباشرة مع وضع ورشة لترشيد النفقات العمومية للتضامن بكيفية تستهدف بدقة المستفيدين الحقيقيين منها.و قد أبقى برنامج الحكومة الباب مفتوحا لإثراء هذه الخطة عن طريق الحوار مع الشركاء الاقتصاديين و الاجتماعيين ,و ذلك في إطار الثلاثية التي ستكون الفضاء المناسب لحوار مرجعيته العقد الوطني الاقتصادي و الاجتماعي . خطة حكومية لمرافقة آلية التمويل الجديدة و بهذا تكون الحكومة قد وفقت إلى أبعد الحدود في إعداد خطة عمل تأخذ في الحسبان الوضع الاقتصادي غير المريح و كذا واجبات الدولة في مجال التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و دعم الفئات المحرومة من خلال تدابير لخفض عجز الميزانية إلى مستوياته الدنيا و دعم المالية العمومية بتوسيع القاعدة الجبائية وتحسين التحصيل الضريبي. و في نفس الوقت مواصلة التحويلات الاجتماعية التي تقدر في ميزانية العام الجاري وحده بحوالي 23,7 في المائة من الميزانية أي مايعادل 1630,8 مليار دج لتمويل الدعم الاجتماعي للمواطنين . و هو ما تراه الدولة جزءا من مهامها الأساسية في خدمة المواطنين ردا على ادعاءات المعارضة بأنها تحويلات لشراء السلم الاجتماعي , رغم أن الحفاظ على استقرار الجبهة الداخلية يمثل الشغل الشاغل لكل الحكومات و ليس الحكومة الجزائرية وحدها.و لا شك أنها العوامل التي ينبغي مراعاتها عند مناقشة مشروع الميزانية على مستوى البرلمان . و رغم أن برنامج الحكومة و خطة عملها يشكلان كتلة واحدة متراصة تكمل عناصرها بعضها بعضا , غير أن من يبحث عن المساوئ فيهما أو في آلية التمويل الداخلي غير التقليدي , لن يعدمها حيث يسارع البعض إلى التحذير من انعكاساتها السلبية على نسبة التضخم نتيجة طباعة الأوراق المالية في غياب ما يقابلها من العملة الصعبة أو احتياطي الذهب , مما يؤدي إلى ارتفاع نسبة التضخم و تراجع القدرة الشرائية و تآكل قيمة العملة الوطنية, و هي مخاطرة قد لا تحدث إن نجحت آلية التمويل الداخلي غير التقليدي في استقطاب الأموال المكنوزة لدى الخواص في السوق الموازية , و توظيفها خاصة في تمويل المشاريع الكبرى في برامج التنمية الوطنية من خلال سندات التمويل التساهمي السيادية، التي تمكن من شراء أسهم في مشاريع عمومية تضمن تحقيق هوامش ربح سنوية لصاحبها لمدة متفق عليها، يتم عند انقضائها تسديد كامل الأموال لحاملها مقابل تنازله عن أسهمه للدولة. و هي معاملة غير ربوية يمكنها أن تغري كانزي الأموال للمشاركة فيها مما يبعث الحياة مجددا في كتلة نقدية ضخمة يتسبب عدم تداولها نقصا ملحوظا في السيولة المالية في السوق الوطنية . كما أن طباعة الأوراق المالية , ضمن حدود الكتلة النقدية النائمة لدى كانزي المال , لن تؤثر لا على نسبة التضخم و لا على القدرة الشرائية و لا على قيمة الدينار , بينما تحل مشكلة نقص السيولة النقدية لدى مؤسساتنا المالية , فضلا عن إمكانية تطوير معاملات تجارية مع دول الجوار و خاصة بالمناطق الحدودية , عن طريق المقايضة التي لا تحتاج أصلا إلى أي نوع من السيولة النقدية و لا تتطلب سوى ضبط هذا النوع من التبادل التجاري عن طريق التشريع , الأمر الذي يحد من ظاهرة التهريب عبر الحدود الجنوبية , و يوفر مواد و سلعا مستوردة بالعملة الصعبة , و يسمح للقوى الأمنية من التفرغ لمحاربة الجريمة المنظمة و الإرهاب العابر للحدود . بين الاستدانة الخارجية و رهن السيادة المالية جزئيا لدى المؤسسات النقدية العالمية و شروطها المسبقة بالتخلي عن التحويلات الاجتماعية , و بين المخاطرة باعتماد التمويل الداخلي غير التقليدي لتغطية عجز الميزانية , فضلت الدولة الخيار الثاني مع مرافقته ببرنامج متكامل لإصلاح الاقتصاد الوطني و تنويع موارده , واستعادة التوازن لمؤشراته الأساسية في ظرف خمس سنوات المقبلة . و هو ما يفرض تسييرا صارما للموارد المالية المتاحة لا تحتمل استمرار أي شكل من أشكال التبذير أو التقتير أو التلاعب , و هو ما حرص على التنبيه إليه الوزير الأول أحمد أويحيى خلال لقائه بالشركاء الاجتماعيين و الاقتصاديين من منظمات أرباب عمل و مركزية نقابية , موجها عدة رسائل إلى جميع الأطراف لعل أوضحها تلك التي تذكر «بأن الجزائر دولة قانون و أن القانون يسري على الجميع دون استثناء».