هل حدث وجربتَ مثلي أن تسأل الأمكنةَ عن حالها، وهل "توحْشَتْ" هي أيضا مثلك الغائبين عنها ؟ لا تظن أن الأمكنة بكماء، بل إن لها لغتها التي لا يفهمها سوى الطاعنين في الترحال . الأمكنة التي نمر بها تمر بنا أيضا. تكبر بنا و نكبر بها و من خلالها. عندما أتأمل الأمكنة التي أمشي عليها، يُخيّل لي أن لها لغتها الخاصة، ولها ذاكرة فيلٍ أو ذاكرة جَمَلٍ وجُمَلٍ .. إنها لا تنسى ظلالَنا التي تسقط عليها. ومثلها لا ننسى نحن جلدها الحي الناعم أو الصلد الذي نقف عليه. بيننا بوح. كأن الأمكنة في صمتها وهدوئها الظاهرين، تخزّن طاقات الذين عبروها. وكأن لها حواسها السرية التي لا تُدرَك ..فلا غرابة أن يؤكد العلم الحديث أن للأماكن ذاكرة، تختزن طاقات الذين مروا بها أو جلسوا فيها أو سكنوها أو سكنوا إليها .. فلم يبق سرا ولا غرابة بكاء الشعراء الأمكنة منذ هوميروس. بكل اللغات. وتخليدهم لها في أشعارهم بأسمائها وأوصافها وظلالها الواقفة، فلا تندثر ولا تصبح أطلالا سوى في الواقع .. ثم لا غرابة أن يتأسس مشروع القصيدة العربية من خلال علاقة تاريخية و إشكالية مركزها البكاء على أطلال المكان، كما لم ينج الشعر العالمي الإنساني من غواية المكان منذ الأوديسا والإلياذة مرورا بشعراء التروبادور و "الأرض اليباب" ل "ت س إليوت" وصولا إلى سعدي يوسف و قاسم حداد وغيرهم ... - وماذا عنك؟! أسمعك تسألني . نعم.. كم يعنيني المكان، ويعني لي، ولي منه نصيبي من المعاناة. لست استثناء في تجربتي الإنسانية والأدبية المتواضعة، ففي القصيدة كما الرواية أشعر بالمكان المنزلق تحت قدمي. إنه جزء من محنتي، وربما كان هو السبب كله في قدري الذي ساقني نحو نهر اللغة و ميلي للكتابة. الترحال والأسفار كانت قدري منذ طفولتي. قسوة الفراق الوجيع وعذوبة اللقاءالمفرح حد انهمار الدمع كما يصطدم الهواء البارد بالحار وينهمر المطر. وتمر في ذاكرتي الصور. المكان الواقف والمتحرك: المنازل والمدن والبحار والطرقات والقطارات والسيارات وظهور الخيل. كنت أكبُر وأترعرع ما بين الحنين والفراق. قدر الطفلة التي كُنتها أن تقاسم حضانتها،من جهة، أبوها وجدتها اللذان كانا يقطنان مدن الشمال البارد المغطى بالثلوج، ومن جهة أخرى جدتها لأمها حيث كان جدها لأمها زعيما روحيا في أقصى الجنوب الصحراوي الحار على الحدود الجزائرية المغربية. فما أن تلبث حواسي الطفولية أن تهدأ، وأن تتآخى مع المكان وناس المكان بعضا من الوقت، وما تكاد دموع الوحشة والفراق أن تجف من عيني الطفلة التي كُنْتُها، دموع تريح الصدر الصغير بعيدا عن عيون الكبار. فالكبار أحيانا لا يفهمون ما يسعد الصغار،لأنهم ربما أضاعوا الطفل داخلهم. وما تكاد الوحشة أن تخفف وحشتها، حتى يأتي دور الطرف الثاني ليسافر بالطفلة التي كنتُها سفرا ممتدا طويلا إلى بيته وأهله، وعلى وجوههم وحركاتهم سعادة عظمى باحتضاني. وجوه و أماكن ما زلت أحفظ تفاصيلها. قد تقول إن كل طرف كان يرى أن من حقه القيام بواجبه كاملا غير منتقص تجاه الطفلة في غياب أمها.. حقا لكن..هل من أحد فطِن لهول الانكسار الذي كان يحدثه ذلك الترحال بين الجنوب و الشمال في صدرها الصغير كنت أحب المكوث عند أبي في الشمال الصقيعي، وكنت أحب المكوث عند جدي في الجنوب الملتهب بذات الرغبة وذات المحبة. لكن من أين للطفلة أن تدرك سبب ذلك الألم الذي كان يقضم عروقها كلما تهيأ المرْكَبُ للرحيل من جديد. وكلما بدأت طقوس الوداع، وفي الحلق نشيج مكتوم.! وكلما تآلفت الطفلة مع الأمكنة وهدأ انكسارها بعد مدة وبردت وحشتها من وداع الأولين يبدأ انكسار خاطر الطفلة، وانشطار روحها، واحتراق صدرها بوداع الآخرين. تعلمت الطفلة درس الأمكنة التي لا تسافر معها بل تظل في انتظارها بصبر. كبرت الطفلة التي كانت بارعة في حساب الأيام، واقتراب لوعة الوداعات وفرح اللقاءات في الوقت نفسه. وكيف يحدث الرعد وينهمر المطر من العيون. تتساءل باستنكار عن جدوى المسافات. أصبحت تدرك لغة الأمكنة العصية على الفهم سوى من لدُنِ الطاعنين في الترحال. الطفلة تلك مازال صوتها الصغير في داخلي، تغمغم في سرّها ما خطته في كتابها (حجر حائر) : أقتصد في فرحي عند اللقاء ليقتصد الوجع مني عند الفراق.!