"ما عيشة " فقدت البصر من شدة البكاء وليندة تفرغت لكتابة الشعر و سليمة تنتظر فارس أحلامها تغلبت بعض المقيمات بدار العجزة و المسنين عبد القادر بو خروفة بحامة بوزيان على الخجل و التردد ووجع الذكريات و قررن أن يفتحن قلوبهن للنصر، معتقلات محطات هامة في حياتهن المليئة بالأحداث و الحكايات، لعلهن كما أكدن في لحظات إفضاء و صرخات ألم و قهر و انكسار يجدن بارقة أمل تقودهن إلى أحبة فقدنهن دون سابق إنذار، أو أهداف هاربة يحلمن بمعانقتها قبل الرحيل،أو على الأقل يقدمن عبرة لمن يعتبر من القراء . “ما عيشة”: حرمت من ابنتي مريم و سأظل أبحث عنها تحمل “ما عيشة “المسجلة بلقبين في وثائقها الثبوتية،بجعبتها حكاية أغرب من الخيال، لا زالت ذاكرتها تحتفظ بكل تفاصيلها الموجعة انطلاقا من تنازل والدها عنها لصديقه بعد رحيل والدتها ، إلى حرمانها من وحيدتها مريم و فقدانها لنعمة البصر من شدة البكاء عليها. اعترفت بأنها أمية و لا تدرك الكثير عن مفهوم الزمان و لا تستطيع تحديد السنوات و الشهور بدقة لدرجة أنها لا تعرف تاريخ ميلادها و سنها الحقيقية،لكن الوثائق الموجودة بالمركز تقول بأنها من مواليد سنة 1950.في حين توحي التجاعيد المحفورة بعمق بملامح وجهها و جسدها النحيل الضعيف، بأنها في منتصف العقد السابع، و الأهم أنها تتذكر جيدا بأن رجال الشرطة عثروا عليها تائهة ضائعة بشوارع و أحياء بسكرة، فنقلوها إلى دار العجزة ببلدية الهرية في حالة يرثى لها و قضت هناك 28 عاما،و بدار عبد القادر بو خروفة بحامة بو زيان 9 سنوات، مما يعني أنها من أقدم المقيمين بالدارين. تنهدت من أعماق أعماق مأساتها و عادت بذاكرتها إلى مرحلتي الطفولة و الشباب و قالت لنا:”كنا نعيش أنا و أبي و أمي و أخي و أختي في وئام و استقرار،لكن موت والدتي و نحن أطفال صغار قلب حياتنا رأسا على عقب. أختي مرضت و نقلت إلى مستشفى بسكرة و سرقها الأشرار... ثم علمنا بأنها لحقت بأمنا و تخلصت من عذاب اليتم و الفقر.أعتقد أننا كنا آنذاك في بداية الخمسينات. لم يتمكن أبي من رعايتنا أنا و أخي مسعود، فقرر أن يتنازل عني لصديقه المحروم من نعمة الإنجاب ليتبناني و يوفر لي الأمن و الاستقرار و دفء الأسرة. وعلمت لاحقا بأن أبي تزوج من إحدى بنات عمومتنا و أنجب منها وطلب من صديقه هذا قبل أن تخطفه هو أيضا يد المنون أن يمنحني لقبه العائلي و هو /مصمودي/ و ألا يخبرني بأن لقبي الحقيقي هو /قيرود/ حتى لا أفكر في الهروب من بيته عندما أكبر لأبحث عن أهلي.لكن لا أحد فكر في تغيير اسمي الذي بقي /عيشة/ بكافة وثائقي. و عندما علمت خالتي و هي أخت أمي غير الشقيقة(من والدها) بما حدث، قررت أن تبحث عني و جمعنا القدر و أصرت على أخذي معها إلى بيتها لرعايتي. و تم لها ذلك و قضيت معها سنوات أخرى من طفولتي و جزء من شبابي. وعندما تقدم لطلب يدي أحد أقاربي و اسمه /أحمد حلاسة/ وافقت خالتي رغم أنه متزوج من امرأة أخرى و أنجب منها ولدا و بنتين.وتم زواجي منه بالفعل و أقمنا معا بمنزل خالتي ببسكرة وأنجبت منه ابنتي الوحيدة مريم.و تغيرت فجأة معاملته لي و أصبح يكرهني و لا يطيق رؤيتي.وصدمت ذات يوم أسود بخطفه لقرة عيني مريم و لم تجد محاولاتي المتكررة و المستمرة للبحث عنها في كل مكان.و انهرت تماما و ظللت أبكي ليلا و نهارا من شدة الألم و حرقة الفراق ،إلى أن انطفأ بصري و أصبحت كفيفة ووحيدة دون معيل أو سند. و ابتلعني الشارع أنا و مأساتي و دموعي التي لم ولن تجف. و نقلني رجال الشرطة إلى دار العجزة بالهرية و أقمت بها 28 عاما ثم انتقلنا إلى هنا قبل أكثر من 9 سنوات و رغم مرور السنون لم أيأس و لن أيأس حتى الموت من لقاء مريم التي تقترب من العقد الرابع من عمرها ،كما أعتقد، وهي من مواليد الحروش . لقد تضاعف الأمل في لقائها بعد أن التقيت قبل سنوات بأخي مسعود و عرفت منه لقبي الحقيقي و هو /قيرود/ و معلومات كثيرة عن أمي و أبى و اخوتي الآخرين غير الأشقاء و ساعدوني في تصحيح هويتي بناء على حكم قضائي.لقد بث نداء عبر حصة إذاعية خاصة بالبحث عن المفقودين لفائدة العائلات و لأن كل شيء ممكن حقا سمعت النداء من مذياعي الصغير بمحض الصدفة.و ساعدني مسؤولون بالمركز على بث الرد. و حضر أخي مسعود و زوجته و قاما باستضافتي بمنزلهما بسقانة بولاية باتنة و كنت جد سعيدة بذلك، فلا شيء يضاهي الالتقاء بأفراد عائلتي بعد عمر من البعد و الفراق. و تلقيت لاحقا دعوة لحضور حفل خطوبة ابنتهما البكر لبيتها بحماس ثم علمت أنها تزوجت و تقيم بحي الحطابية بقسنطينة، و لم تفكر قط في السؤال عني أو زيارتي. و سرعان ما انقطعت زيارات والديها لي.المهم أنني مطمئنة عليهم و أجد من مدير المركز كل الرعاية و الاهتمام. لقد أتاح لي في العام الماضي فرصة أداء مناسك العمرة و وعدني بأخذي للحج.و كم دعوت الله بالبقاع المقدسة أن تكون ابنتي مريم على قيد الحياة و تزورني قبل أن ألتحق بالرفيق الأعلى.هذه أمنيتي الوحيدة و أرجو من كل الناس مساعدتي على تحقيقها و أشكر الله على نعمة الصحة و الستر و أشكركم.” فتيحة :أحمد الله على نعمة الصحة و أتمنى الموت بالبقاع المقدسة /فتيحة.ب/ من أكثر سيدات الدار قبولا و تقبلا لواقعها و اهتماما بهندامها و نظافتها و لا يكف لسانها عن الحمد و الشكر لله لأنه منحها نعمة الصحة و الستر وافقت بعد تردد على فتح قلبها لنا :” عمري 55 عاما، تمتد جذوري إلى منطقة القرارم قوقة هناك ولدت و كبرت و ترعرعت ثم تزوجت. كم تمنيت أن أنجب و أصبح أما للكثير من الأبناء و البنات لأستمتع و أفرح بهم و أنا شابة و يتكفلوا بي و يرعونني عندما يغيب الشباب و العنفوان. لكن هذه الأمنية لم تتحقق لأن زوجي عقيم .صبرت و انتظرت دون جدوى . وفي نهاية المطاف لم أجد أفضل من دار العجزة لاحتوائي و الاعتناء بي . حضرت إلى هنا منذ حوالى ست سنوات و لا أحد من إخوتي فكر في الاتصال بي أو زيارتي. كانت عمتي تأتي للاطمئنان علي ثم توقفت عن زيارتي دون سابق إنذار.و بقي ابن عمي الذي يقيم بحي بكيرة بقسنطينة يزورني و يدعوني إلى بيته من حين لآخر، ثم تقلصت زياراته و دعواته تدريجيا إلى أن أصبحت نادرة جدا. أفهمه و لا ألومه فهو ليس ابني و لو رزقني الله بأبناء لما أقمت هنا و لما انتظرت أي شيء من أي أحد. أجمل شيء حدث لي طيلة إقامتي هنا ترشيحي لأداء مناسك العمرة في الربيع الماضي. أحمد الله على هذه النعمة و على نعمة الصحة .لقد أجريت عملية جراحية على مستوى الظهر، واسترجعت بسرعة عافيتي . و أنا الآن أعتمد على نفسي في كل شؤوني من غسل و تنظيف لملابسي و فراشي و كل ما أصبو إليه الذهاب لأداء مناسك الحج و الموت هناك”. ليندة:متفرغة للكتابة و الشعر و أحلم بمرفأ الشفاء انها شابة جميلة و مثقفة تقضي وقتها في جمع المعلومات العلمية و الطبية و الثقافية و كتابة الشعر و المقالات المختلفة من أجل المساهمة في إعداد مجلة ناطقة باسم المقيمين بالدار تعبر عن آمالهم و آلامهم و انشغالاتهم المختلفة.تغلق على نفسها عالمها المليء بالحروف و العبارات المؤثرة و العبرات المكبوتة و كأن نفسها تتحدى نفسها حتى تظل واقفة شامخة صابرة و مبدعة معطاء .لا يمكن إلا أن تحب تلك الابتسامة الطفولية البريئة التي تفرمن شفتيها و عينيها الحزينتين عندما تحاول أن تقنعها بالإنصات إلى صوتك المتسرب من خلف جدار الدار بكل غربته و غرابته .تضطرب، تتهرب، تئن،تحزن، تنكسر ثم تنهمر بكلمات كالمطر تسكنك لساعات بل لأيام و شهور...قالت ليندة:”عمري الآن 35 عاما،حضرت إلى هنا بكامل ارادتي و رغبتي و لم أندم على ذلك.فبالرغم من اصابتي بمرض عصبي يؤثر أحيانا على حركاتي و قدرتي على المشي ويجعلني أشعر بالإرهاق إلا أنني لا أستسلم و أقاوم الألم بالأمل.لقد أنجزت مجلة حائطية شهرية خاصة بدارنا و أنا الآن بصدد إعداد مجلة ربما سيكون عنوانها “الأمل”أو الآمال التي نحياها”و أكرس كل وقتي لجمع المعلومات و كتابة المقالات المتنوعة .كما سأنشر بها بعض محاولاتي الشعرية.و كل ما أتمناه أن تنجح التجربة. أما حياتي الخاصة فلم تعد تعني لي شيئا و لا أنتظر أي شيء من أي أحد .لقد تخلت عني والدتي و أنا في الثالثة من عمري و لا أتمنى أن أراها... إنها على قيد الحياة ،لكنها ميتة بالنسبة إلي .لقد تزوج والدي و عشت معه ومع زوجته . وعندما توفي اضطررت للذهاب إلى منزل عمتي و لم أجد هناك الاستقرار و الراحة . عمتي التي اعتقدت أنها يمكن أن تعوض أبي كانت تخجل بمرضي العصبي الذي لم أختر الاصابة به. فقررت بعد أن فكرت مليا تخليصها من الخجل و مني.حضرت إلى هنا و لا أحد يزورني .” و عبرت ليندة في نهاية حديثها إلينا عن أحاسيسها بهذه الكلمات الهاربة من قاموس أحزانها : رحماك ربي فجرحي نازف دائما....... في جحيم اليأس يلقيني سلمت لي عذابا أستكين له ........ و تضحك القلوب حين يبكيني سليمة :أخي الأكبر أحضرنا أنا و أخي رابح إلى هنا و نسينا /سليمة .ف/عكس الكثير من أوانس وسيدات الدار ،انها فتاة سمراء نحيفة لا يتجاوز عمرها 25 عاما،لكن الشيب غزا شعر رأسها مبكرا و لم تسلم ملامح وجهها من هجوم خطوط التجاعيد...فالهموم و المشاكل التي تخنق الأنفاس، تنعكس في حالات عديدة على المظهر...التقينا بها في شرفة الدار جالسة مع زميلاتها المسنات يتجاذبن أطراف الحديث في انسجام و وئام، فلم تصمت عن الكلام المباح عندما اقتربنا منهن و اقتلعت من ذاكرتها المتعبة فصلا مؤلما من أصل الحكاية:”لقد شاء القدر أن أفقد أنا و أخي رابح ،ذلك الشاب الأسمر الجالس تحت المظلة الشمسية في الطاولة الموجودة قبالتنا ،والدينا و نبقى يتيمين.اعتقدنا أن أخانا الأكبر الموظف(...)و زوجته لن يتخليا عنا خاصة و أنهما فقدا ابنتهما الوحيدة.و حدث ما لم يكن في الحسبان،قرر أخي قبل أربع سنوات ألا يحمل على كاهله لمدة أطول مسؤولية رعايتنا و تخلى عن الأمانة التي تركها له والدي. أحضرني أنا و أخي رابح إلى المركز المخصص للمسنين و نحن في ريعان الشباب و أدار ظهره للماضي.زياراته لنا تقلصت بسرعة و أصبحت نادرة جدا، مما جعلنا نستوعب بأنه لن يتراجع عن قرار إبعادنا عن حياته و بأن دارنا هنا بين هذه الوجوه الطيبة و ليس في بيته.أحمد الله على كل حال و راضية بقضائه.فمن نعمه علي أخي رابح الذي أحبه كثيرا و الصحة و النشاط و التفاؤل.و أصارحكم بأنني مستعدة للزواج، إذا تقدم لخطبتي الرجل المناسب الذي يضمد جراحي و يصونني.”