" قطع كلامه أزيز سيارة حادّ، مزق سكون الحي... كانت تقترب منه بسرعة جنونية...امتلأ المكان بنور ساطع، ثم سمع صوت الإطارات...برزت من النافذة ذراع طويلة امتدت نحوه، ورأى فوهة مسدس تصوب باتجاهه...انطلقت رصاصتان...اخترقت الرصاصتان صدره، وسقط على الأرض قابضا على صدره المضرّج بالدّماء". مع تنامي الجريمة في المجتمع الجزائري، بمختلف أشكالها وحيثياتها وتعدياتها، كان لزاما معالجة الآفة فنيا. صدر مؤخرا للروائي الشاب، عبد اللطيف ولد عبد الله، رواية بتوابل بوليسية عنونها "خارج السيطرة" (منشورات ضفاف/الاختلاف). كون الروائي مهندس معماري، شيَّد عالم الجريمة في مجال اختصاصه. دوافع الجرائم كثيرة ومتشعبة في المجتمعات: الانتقام، المال، الشرف، الجنون، الضغينة. وهناك من يتخذها هواية، بعد مشاهدته فيلما إجراميا أو حلقة كارتونية أو لعبة إليكترونية. أضحت الجرائم اليومية تقتل البشر أكثر من الحروب والأمراض. أحيانا،خيوط الجريمة تبدو مرئية أو حتى ساذجة، وتارة أخرى، مستعصية على المحققين والشرطة العلمية. رواية "خارج السيطرة" التي أتت في 216 صفحة، تغوص في جريمتيْن مترابطتيْن اقتُرفتَا في مدينة معسكر (300 كم غربي الجزائر العاصمة). المقتولان: يوسف قدادرة، محاسب بمديرية التعمير الذي تتلقى رصاصتيْن قاتلتيْن. وتمر الأسابيع ويُقتل مدير الخزينة الولائية بمنزله المحقق أحمد بن همنة تأبط الملفيْن، باحثا عن خيطيْ الجريمتيْن. عادة ما تدقُّ الأنظار الثاقبة نحو الأقارب ثم الأصدقاء حامت الشكوك حول مراد، صهر يوسف قدادرة المقتول، الذي زج به إلى السجن ثلاث سنوات بتهمة ضلوعه في قضية فساد في مجال مشاريع البناء، والتي طغى عليها في الجزائر العمولات المشبوهة والصفقات المخيطة على مقاس المقاولة الفائزة. كل طرف يحصل على قطعة خبز مطلية بالجبنة. المحقق أحمد بن همنة حشر أنفه في عجيزة زاهية براشد، الامرأة اللغز في القضيتين، إذ هي زوجة يوسف قدادرة السرية، وفي نفس الوقت عشيقة خليل، مدير الخزينة الولائية. كانت تشحِّمُ دواليب الصفقات على أكمل وجه. لم تبدِ أي استغراب من مقتل الرجليْن! كان همها تضخيم فواتير مشاريع البناء وتسمينها بأعمال وهمية تتقاضى بموجبها مالا وفيرا تصبه في حسابات خارج البلاد. وليست أوراق بناما ببعيد! لكن من هو منفذ الجريمتين المتصلتين؟ مراد لم تدنه قرائن الشرطة العلمية. كان يبدو المستفيد الوحيد من قتل الرجليْن اللذيْن حجزا له زنزانة مدة ثلاث سنوات. ويكتشف المحقق أحمد بن همنة أن إمضاءات مراد كانت مزورة، مما دفعه إلى طرح فرضية الانتقام من يوسف قدادرة وخليل. تسير الرواية بثبات، بلغة سليمة، منتقاة تفي قالب الرواية البوليسية التي لا تترك شاردة إلا وأوضحتها. الروائي ولد عبد اللطيف عرف كيف "يِسيطرُ" على مجريات الرواية الشيقة، بطريقة سردها السلس والملقحة بتفاصيل مذهلة ومثمرة فنيا. ملبسات التحقيق الجنائي بلغت ذروتها حين وقع المحقق أحمد بن همنة في أسْر عصابة مسبوقين قضائيا، يقضون أوقاتهم بين الجعة والاعتداءات. قاد العصابة الإجرامية، المكنى "الهواري"، كان الحجر المفقود في بناية الجريمتين. التحقيقات التي أجرها في السجن مكنت أحمد بن همنة من الوصول إلى معلومة جد مهمة. مراد والهواري تعارفا في السجن ووطَّدا علاقتيهما بعد الإفراج عنهما. في الأسْر، في بنايات مهجورة، كاد أحمد بن همنة أن يُقتل على يديْ الهواري. في غفلة من العصابة ابتي انهمكت في القمار واحتساء الخمر، استعان المحقق، الموثوق اليدين، بماسك الشعر لفكالأصفادوجده في الدرج هاتفا وسارع إلى طلب النجدة من زملائه في الشركة الذين هرولوا فجرا إلى مكان تواجد أحمد بن همنة، الذي تعارك مع الهواري بشجاعة كبيرة. الرواية تحبس أنفاس القارئ إلى آخر صفحة. ظهر أن مراد أجَّر الهواري، المسبوق قضائيا، لتنفيذ الجريمتين، لإبعاد الشبهة عن شخصه. في طيات الرواية، ألقت كهينة، المساعدة الحسناء حطت الكعب في نفس وحدة الشرطة التي يعمل بها أحمد بن همنة. أغرمبها وأسرته محاسنها. كان المحقق يدقق في أي امرة صادفته أثناء التحقيق المضنى. هل تؤثر العزوبية على حسن سبر التحقيقات الجنائية؟ هل المكبوتات الجنسية لمحقق ما، تلهيه عن مسك خيوط جريمة ما؟ " اهدأْ مراد، أعلم ما عانيته في الماضي. الآن يحب عليك أن تتوقف لأن الأمور قد بدأت تخرج عن سيطرتك." واجه المحقق المدبر الحقيقي للجريمتين، لإشفاء غليله الانتقامي. الوضعية الاجتماعية لمراد أزَّمت حالته النفسية فانفصمت شخصيته: عانى من مشاكل عائلية وعاطفية جعلته يفقد بوصلته. خلعته زوجته فور سجنه، وتزوجت مرة ثانية. خلال مكوثه في السجن، فارقت والدته المريضة الحياة في دار العجزة. نجح الروائي المولود سنة أحداث الشغب (1988) في تشريح الحالات النفسية لشخوصه، واصفا أدق التفاصيل البشرية والعمرانية. لغة الكاتب تجنبت كل ما يثقل الجملة أو النص النابض إبداعيا. تناءى عن تناول "كوليسترول" النصوص المثقلة بضجيج لغوي لا طائلة منه. واختتم الرواية مِسكا: " رآها تبتعد مسرعة عبر الطريق... كان يعيش لحظة سكون داخلي، مصفاة من بياض عينيها ورائحة جسمها، تغذيها البسمات والنظرات الحارقة..."