قلم الروائي الجزائري رشيد بوجدرة يشعُّ ولا يشيخُ. رواية " السَّلْبُ" Dépossession(منشورات فراتنس فانون، الجزائر/Grasset، فرنسا، 2017)، المكتوبة باللغة الفرنسية على لسان الراوي/بطل القصة، وهو مهندس معماري، يسرد حيوات عائلته وأصدقائها على امتداد حقبتيْن تاريخيتيْن: الاستعمارية وبعد الاستقلال."راك"يعود إلى طفولته بقسنطينة وعطلاته الصيفية بالجزائر العاصمة لدى عمّه اسماعيل، الذي كان يدير مكتب محاسبتي رفقة اليهودي "يعقوب تيمسيت"."يعقوب تمسيت" قاسى ويلات نظام "فيشي" إبان الحرب العالمية الثانية، إذ سُجن كآلاف يهود الجزائر في معسكرات "تُسلب" الإنسان كرامته. ويذكر الروائي كيف أن مدير مسجد باريس، محمد بن غبربط (جد وزيرة التربية الجزائرية نورية بن غبريط) خبَّأ 1700 يهودي فار من بطش النازيين، وذلك في أقبية المسجد الباريسي. لوحتان فنيتان تشكيليتان معلقتان في مكتب عمِّه بالجزائر العاصمة، يفصلهما زهاء سبعة قرون من الزمن، اختزلتا تاريخ شمال إفريقيا أو المغرب الكبير. الأولى للرسام العراقي يحي بن محمود الواسط يتصف تأهب المسلمين في مضيق "جبل طارق" لفتح الأندلس سنة 711 م بقيادة البربري طارق بن زياد، الذي أنهى حياته متسولا في شوارع دمشق لاحقا. والثانية لرسام فرنسي، "ألبير ماركي"(1875-1947)، جسَّد عشقه للجزائر في عدة لوحات فنية، ومن بينها تلك التي امتلكها المحاسب اسماعيل في مكتبه، والتي تحوي الجامع الكبير وساحة الحكومة ("ساحة الشهداء"، حاليا) أين نُصِّب تمثال السَّفاح "الماريشال بِيجُو" على فرس هزيل،وهو الماريشال الذي اقترف محرقة في مغارة الظهرة (مستغانم، حاليا)يوم 18جوان1846. غصّت الرواية بالتوابل التي يحبذها الروائي بوجدرة، ولم يحد عن ثيمات كسر الطابوهات الاجتماعية. فهذا أبوه "السي الحسين"، المتعدد الزوجات، الثري، اللهوف جنسيا، الذي اتَّهم أمَّ الراوي "راك" بالزنا بهتانا، كذريعة لاكتسابه خليلات في كل البلدان التي زارها. التهمة الباطلة حطمت معنويات زوجته الأولى، وجعلها لقمة سائغة للهذيان، طريحة الحزن والاكتئاب. أما أخو بطل الرواية، فقد انتحر في منفاه بإنجلترا أين كان يمتهن الطب، وفرضية مثليته الجنسية أثرت على تماسك العائلة التي عاشت في قسنطينة أواسط القرن العشرين. تعجُّ الرواية بطرائف لا يتقن حبكها سوى قلم شرس من طينة بوجدرة، الذي يملك قدرة لغوية هائلة، تدق النص بمطرقة سردية تدوي في وجدان القارئ الفطن. هذا "أندري جِيدْ" (الحائز على نوبل الآداب سنة 1947)، الذي اغتنم فقر الأهالي في مدينةبسكرة (جنوب أقصى شرق الجزائر العاصمة) ليشبع غريزته الجنسية بأجساد الأطفال الجوعى. طفولة "راك" ميزتها بدانة جسمه، حتى أضحى زملاؤه يتهكمون على كتله الشحمية في المدرسة. يتقن بوجدرة ملامسة الأشياء فنيا: يزخر النص بالروائح التي اشتمها في مدينة الجسور المعلقة، قسنطينة، والألوان تعد وسائل مقدسة في أعماله السردية. الكاتب لم يخفِ مناهضته لعنصرية الاستعمار الفرنسي، كاللافتات المستفزة للأهالي في الشواطئ أو المقاهي: " ممنوع على الكلاب والعرب". بخلاف الروائيين بوعلام صنصال وكمال داوود ووسيلة تمزالي، الذين اتَّهمهم بوجدرة في كتاب ناري "مهربُو التاريخ" بتلميع صورة الاستعمار الفرنسي بالجزائر (1830-1962)، وذلك من أجل مآرب شخصية ومالية. تفاصيل تُسلبُ القارئ يذهلنا بوجدرة بتفاصيل شخوصه. فمثلا، نقرأ كيف أن الراوي "راك" شهد الوفاة المروعة لعمَّته فاطمة، والتي دهستها عربات الترامواي بقسنطينة، لينشطر جسدها على اثنين، وما أثار اشمئزازه هو اغتنام بعض الصبية المصيبة لانتشال حلويات "الإسفنج"الساخنة، المربوطة بخيط من الحلفاء، المبعثرة على خط السكة الحديدية دون مراعاة المأساة.ساعة الدهس: السادسة وعشر دقائق صباحا ذات صيف جميل، وكان عمره آنذاك ست سنوات فقط. لم يفوت ابن مدينة عين البيضاء (ولاية أم البواقي شرقي الجزائر، مواليد 1941) فرصة روايته "السَّلْبُ"، للتذكير بإعدام المناضل الفرنسي ""فرناند إفتون" بالمقصلة، فجر 11 فيفري 1957 في ساحة سجن بربروس (سركاجي)، وكيف أن زوجة المعدوم التي استرجعت ملابسه من السجن رأت قطتها تشتمُّ ملابس سيِّدها المغتال وتنام فوقها مطمئنة. بوجدرة لا يكتب من العدم، ونجده يستثمر في قراءة الروائيين العالميين. فمن رواية الأمريكي وليام فولكنار "The soundandthe fury "،وازى بوجدرة بين عمته فاطمة وشخصية "Delsy" الزنجية السمينة، وتارة أخرى يشببها بشخصية "فرانسواز" البيضاء البشرة والرشيقة في رواية " البحث عن الوقت الضائع" لمارسيل بروست. كابوس لازمه طوال حياته، مثل رائحة الموت لأمه سنة 1964.اعتبر الراوي نفسه " Benjy" غبي العائلة في روايو فولكنر تلك. وتمنى أن يكون أب" Benjy" أباه، لأنه يحتسي الويسكي، أما أبوه "السي الحسين" يكتفي بشرب الشاي بالنعناع. حتى جدته كانت بدينة. ماتت في أبهة، محلاة بالمجوهرات. والراوي احتفظ بصورتها ولم تفارقه قط. كما اكتنز صورتين تعبران عن وحشية الاستعمار، الذي يراه بوجدرة يقتات من نفس القمامة: جثث الأبرياء.الهوس بالصور يتجلى في النص الشائك ذاكرةً. في إحدى الصور، طفل جزائري يخرج من الخيمة ثم يطلق عليه جندي فرنسي عن قرب رصاصة قاتلة (20 ماي 1945). صورة أخرى أدمت قلب "راك"، لفتاة فيتنامية عارية تجري كالمجنونة في درب صغير ونيران النابلم البرتقالية الأمريكية تلتهمُ جسدها الرهيف (29 جوان 1972). علاقة الراوي بأمه، ضحية افتراء أبيه الكثير الترحال والتجوال، تجلَّت في دموعها بمحطة الخروب للقطارات، ذات يوم بارد، إذ رافقها إلى قريتها الأصلية بعد زواج أبيه بفتاة قاصر تركية الأصل، وهي لم تحض بعد. تقاسم الآلام مع أمه، ولم تفارق ذاكرته المثقلة بالأحداث والتقلبات وارتياد المواخير. سنة 1957، غادر "راك" مقاعد الدراسة ليلتحق بالثورة. ليلة صعوده إلى الجبل، قضاها في أحضان "سيلين" (زوجته المستقبلية، ابنة معمر متغطرس معادٍ للسامية بالغرب الجزائري) فافتضَّ عذريتها. لكن بعد بضعة أشهر، أُصيب بنيران صديقة، فأُجلي خارج البلاد حتى الاستقلال (صيف 1962). سلبُ الذاكرة عندما توفت زوجة رسام لوحة "جامع ساحة الحكومة" في السبعينات، حبا للفنون والجزائر، أوصت بإهداء وزارة الثقافة منزلهاالكولونيالي الفخم "جنان سيدي سعيد". لكن موظفا ساما بالوزارة استحوذ على المبني الجميل المطل على خليج الجزائر، و"سَلَبَهُ" لحسابه الخاص، فشوَّه منظره بتحويله إلى محلات مقرفة عمرانيا. إذن، رواية "السَّلْبُ" هي سرقة للموروثين المادي واللامادي للذاكرة الوطنية، حسب رواية بوجدرة الأخيرة."السَّلْبُ" عند بوجدرة سرقة الحلم والحالم معا.تحويل ورشة الفنان التشكيلي"ألبير ماركي"إلى وجهة تجارية، عكس نوايا مالكيْها الحقيقييْن، هي في نهاية المطاف سَلْبٌ للأرض التي تداول على اغتصابها أجناس مختلفة، وصولا إلى الاستعمار الفرنسي، ثم بعد الاستقلال برزت سرقات منظمة باستعمال السلطة والنفوذ والرشاوي. شخصية الراوي، "راك"، بالحرف اللاتينيRac، ربما اختزال لاسمRachidرشيد، إذ ورد ذات الاسم "راك" في راوية سابقة لبوجدرة،" نزْل سان جورج" (دار الغرب، 2007)، حيث"راك" هو نفسه رشيد. في الأخير، زخم كلمات بوجدرة توخز القارئ كالإبر أحيانا، وقد تثير حتى غريزته في بعض المقتطفات عن إيحاءات جنسية يعاني من كبتها الإنسان العربي، من المحيط إلى الخليج.قسنطينة تعود مرارا في روايات بوجدرة:"الصبار"، مثلا. سكنته كما سكنت عنابةوقسنطينة الروائي كاتب ياسين (رواية " نجمة"). م يتعب بوجدرة من نبش خبايا وادي الرمال، الذي شهد تدحرج رؤوس الجزائريين طيلة 132 سنة من القمع الاستعماري.