هناك أشخاص استثنائيون في الكون لا يمكن القبض عليهم بمنظومة علاماتنا التي تشبه علبا قصديرية صدئة، وليست مؤهلة للسرد وصناعة الدلالات والاستعارات الحية للحديث عن خصالهم وفضائلهم، ومن هؤلاء الموسيقار المرحوم محمد بوليفة، أيقونة الأغنية الجزائرية الملتزمة، وأحد الملحنين الذين وجب أن نتذكرهم باستمرار لأنهم نادرون في مساحات قفراء غبراء بحاجة إلى ترقية ذوقها لتعرف من هي، وماذا تريد في الكون بتهافتها الأعظم. التقيت بالموسيقار محمد بوليفة رفقة الشاعر سليمان جوادي في 1982 بشارع عميروش، ثم ابتدأت رحلتنا الخرافية مع مجموعة من الشعراء والأكاديميين والكتاب والإعلاميين. كانت حياتنا آنذاك ثرية، ومؤثثة، وكانت تشبه حياة البوهيميين والمشائين القدامى: الشعر والغناء والمسرح والكتابة والنقد والجدل والتسكع في أرض الربّ الواسعة. ثم عشنا في بيت واحد بالعاصمة، وهناك كنّا نصنع عالمنا ومجدنا وبهجتنا، بطريقتنا، نكتب ونتناقش ونغني ونعيش أجواء زوربا تارة، وتارة أجواء الملعونين: كما لو أننا كنا عصافير لها كلّ الفضاءات. كانت أحلامنا أكبر مما هي عليه اليوم. لقد ساخت أشياء كثيرة كان يجب رعايتها للحفاظ على الإنسان. ما زلت أعتبر الثنائي سليمان جوادي ومحمد بوليفة ظاهرة فنية وإنسانية راقية، نادرة، وعجيبة أيضا، وليس من السهل أبدا أن تتكرر في سياقاتنا هذه التي تحارب البرعم والوردة. كنت أشبّههما تارة بالشيخ إمام واحمد فؤاد نجم، وتارة بمارسيل خليفة ومحمود درويش. هل صحيح أن زامر الحي لا يطرب؟ هذا الثنائي صنع أمجادنا وأمجاد الأغنية الجزائرية في وقت ما، قبل مجيء هذا «الأيّ شيء» الذي سيهيمن على الساحة الفنية برمتها. كان سليمان جوادي بسيطا، وراقيا، سريع البديهة، متواضعا، وزاهدا. يكتب روائعه كما القطن، أو كما ندف الثلج الهادئة، بانمحاء كبير، ودون جلبة، وبعربية فصيحة قريبة من الجميع، بسيطة وشاعرية، وعميقة من حيث الصور والدلالات. وكان محمد بوليفة يلحن هذه التحف الرائعة ويقوم بتأديتها. من منّا لا يعرف عاد القطار من البلد؟ أو لا يتذكر لا تأسفي حبيبتي؟ أو ما قيمة الدنيا وما مقدارها، أو لخّص حديثك واختصر؟ تلك اللآلئ التي رافقتنا أعواما، وما زالت تضيء أعماقنا المظلمة، قبل أن تتغير السياقات وتصبح الأغنية التجارية قيمة ومرجعا. يجب سماع هذا الثنائي من أجل المقارنة، لمعرفة حجم الفجوة. كتب سليمان جوادي قصائد غنائية كثيرة لعدة مطربين جزائريين وعرب، ولم يكبر أبدا كما يكبر الحمقى والسطحيون. ظل صغيرا ولم يسكنه غرور الأجيال المهزومة رغم شهرته، بل بقي كالتراب، قريبا جدا من الأرض التي أنجبته، وقريبا من الجميع، هادئا وحكيما، وحاضرا بإبداعاته ونكتته وهدوئه ومسؤولياته كمدير ولائي للثقافة، وبجانبه الإنساني الذي جعله كبيرا، أكبر من الشعر والدواوين الكثيرة والاستعارات والموسيقى والعلاقات التي لا حصر لها. أمّا الموسيقار محمد بوليفة، فإضافة إلى ما قدمه للأوبيريت، فقد لحّن لعدة فنانين بارزين، ومن هؤلاء وردة الجزائرية، وكتب قصائد بالعامية غدت مآثر متداولة، ومنها: الأيام، دالة بدالة، هيّا نتسامح، حتّى شي ما فات، عييت نقول لك لا لا...كما استفاد من الموروث: قمر الليل للشاعر بن قيطون، صحيبي، خلّى ما خلّى، جينا زيار، إلى غير ذلك من الكلمات والقصائد الشعبية التي لحنها بعبقرية، وعادة ما كان يستشيرنا نحن، خاصة في السنين الأخيرة. أتذكر جيدا كيف عشنا معا أغنية «عييت نقول لك لا لا»، كواقعة حقيقية، وككلمات وألحان وأداء، وكيف ساهمت شخصيا في تعديل بعد الصور بطريقة كوميدية، وكان بوليفة يضحك من ملاحظاتي المفارقة التي لم يكن يتوقعها. عندما كتب في ليل ماطر قصيدة عييت نقول لك لا لا، ضمّن هذا البيت: «خلّيها تكبر الورود، ما نقطفهاش يمكن تعود»، أخذته في اليوم الموالي إلى بائع ورد بشارع ديدوش مراد، مقابل الجامعة المركزية، وقلت له: محمد. انظر كيف تصبح الورود عندما تكبر. فضحك وقال لي: ماذا تقترح؟ فقلت له: خليها تتبسم الورود. وكذلك كان الأمر. استبدل الصورة الأولى بالثانية قبل تسجيل الأغنية في صيغتها النهائية، وهكذا في سياقات أخر. كان يستمع جيدا، يلاحظ، وكان دقيقا جدا في كيفية النظر إلى المسائل البلاغية الشائكة، إلى الموضوعات الشعرية، رؤاها، وظيفتها ومقاصدها الفعلية، أي أنه كان ظاهرة حقيقية في مجال الشعر والأغنية. لحّن محمد بوليفة وغنى قصيدتين للشاعر فني عاشور، وهما قصيدتان راقيتان، وفريدتان: كنت وحدي أغني، وضمّ الحبيب حبيبه. يجب الاستمتاع بهذه الكلمات والصور: شيء فوق العادة، قصيدتان من أجمل ما قرأت، ثم هذه الألحان المميزة؟ ربما لذلك قيل: الطيور على أشكالها تقع. فعلا. أؤمن بهذا عندما أستمع إلى هاتين الأغنيتين اللتين من كرز الخليقة وبهجتها، ككلمات وكألحان، وكأداء أيضا. يا للزمن الجميل كيف تسرب بين الأصابع الغافية. عاش محمد بوليفة طوال حياته في الجزائر العاصمة في وسط مكوّن من النقاد والكتّاب والمسرحيين والشعراء والمفكرين والأكاديميين والمترجمين. لذلك اكتسب ثقافة خاصة وحسّا نقديا راقيا، وكان انتقائيا في تعامله مع النصوص الشعرية التي غناها: سليمان جوادي، عاشور فني، عبد الكريم قذيفة، أو تلك التي كتبها بالعامية، وقد حدث مرارا أن رفض تسجيل بعضها في الإذاعة والتلفزيون لولا إلحاحنا نحن، كأصدقاء ومقربين، ومن هذه الأغاني أغنية مرجانة، وأغنية صحيبي، وأغنية خلّى ما خلّى. لم يكن بوليفة شاعرا ومطربا وملحنا وأستاذ موسيقى فحسب، لقد كان قارئا جيدا، وفنانا من النوع الذي يناقشك في كلمة لا يراها مناسبة، أو في نبرة جاحظة، أو في حرف ليس في محله، أو في صوت ما لا يعجبه حضوره في سياق عيني، وكان متمكنا من الأوزان الشعرية، وله عوالمه الخاصة وثقافته وذائقته التي لا يمكن التشكيك فيها بالنظر إلى تكوينه المركب، الفكري والشاعري. مع ذلك فقد عاش في منتهى الهشاشة والسخاء، طيبا، سعيدا جدا بلا شيء، ومنكسرا، قلقا ومتوازنا، متسامحا، غير قادر على مواجهة الألم، سريع التأثر، وسريع البكاء، كذلك عرفته لعقود كإنسان خسرناه في وقت غير مناسب للخسائر. كانت خسارة عظيمة حقا، مصيبة ومحنة، ولم نكن مستعدين لسماع خبر رحيله، رغم أننا كنا نعرف أنّ مرضه لن يتسامح معه. أعتبره المطرب الوحيد الذي جعل بيته في حيّ العناصر بالعاصمة ملتقى للفنانين والجامعيين والكتّاب والمسرحيين. كان بيتا لا يعرف سوى الفنّ والبهجة والجدل والنكتة والخيال والإبداع المركب والخلافات المستمرة، ما يشبه الحلم والأسطورة الخالدة، كذلك كتبت إحدى اليوميات الوطنية في تغطية صحفية في مطلع التسعينيات. وكان بيننا احترام في تلك الأزمنة التي سلاما عليها. كانت الدنيا آنذاك مختلفة كثيرا، ثمّ أيقظنا الموت من ذلك الحلم الخرافي، من تلك البهجة التي صنعناها من العدم، بكدّنا وعلاقاتنا النورانية التي لا تنضب، أيقظنا الواقع وهذا الرحيل المفاجئ لمرجع وهرَم. وعرفنا حجم الخسارة. انكسرنا كثيرا وقتها، وكان من المتعذر علينا ترميم هذه الفجوة التي أحدثتها وفاة الموسيقار محمد بوليفة، كان ذلك مؤلما وقاسيا على أصدقائه ومحبيه. لقد أحسسنا آنذاك أننا نعاني شيئا من اليتم العظيم. كانت الخسارة كبيرة بالنسبة إلينا، وبالنسبة إلى الموسيقى والأغنية النظيفة التي سيجتاحها الوسخ العام. عندما أفكر اليوم في جيلنا، بأثر رجعي، أقول إني محظوظ بمعرفة الموسيقار محمد بوليفة والشاعر سليمان جوادي عن قرب، عاصرتهما وعشت معهما في منزل واحد كأصدقاء، وكعائلة من الكرز. لم تجمعنا المصالح والسفاسف الصغيرة التي عادة ما تجمع الصغار، بل جمعنا الجمال والإنسان، وأقول أيضا للذين ينسون بسهولة ما قدمه غيرهم للفن والبلد: كانت الأرض سعيدة بوجود هذين الرجلين الكبيرين في سياق ثقافي مخصوص، وكانت فخورة بهما كثيرا جدا، وهو ما لا تشعر به دائما عندما تمتلئ بالضفادع الهرمة، كما يحدث في مقامات لا حصر لها...السلام على روح صديقنا محمد بوليفة، مبدعا وملحنا وإنسانا لن يسقط من الذاكرة، والمجد للأستاذ الشاعر سليمان جوادي، حيّا دائما، حاضرا بيننا، ومتميزا كالعادة بكتاباته وانمحائه الصوفي المقدس.