ليس من عادتي أن أدعي الى محفل فني أو ثقافي و أتخلف, غير أني فعلتها هذه المرة, اذ لم أحضر حفل اختتام مهرجان الفيلم العربي بوهران, و لم أشاهد العرض المسرحي الذي أقيم يوم الخميس بمسرح عبد القادر علولة. أحد أصدقائي لحظ غيابي المزدوج و استفسرني بلطف: -لا سحر السينما استهواك, ولا بريق المسرح أغواك ؟.. أحجمت عن الرد, و أطرقت متفكرا في استفساره, ثم ارتأيت أن أخبره بأنني و أهلي تعرضنا عشية حفل الاختتام الى حادث مروري مروع, و في يوم العرض المسرحي لازمت مستشفي أول نوفمبر انتظر خروج زوجتي من قاعة العمليات بسلام.. انهال علي صديقي بوابل من الأسئلة عن زمكانية و حيثيات الحادث ، ثم واساني في مصابي, و تمنى لي العافية, و لزوجتي و ابني الشفاء العاجل.. و بينما نحن جالسان مستغرقان في الصمت, حضر صديق آخر, و قبل أن يجلس, و دون مقدمات, عنفني بسبب اخلالي بموعد الخميس المسرحي, ولم يسنح لي بفرصة تكرار قصة الحادث المروري التي رويتها لصديقنا الأول ، فلم أتمالك نفسي, و انفجرت في وجهه صارخا : - الظروف حالت دون حضوري الى المسرح.. تراجع و نظر الي دهشا, ثم قال بنبرة قريبة الى الهمس : - منذ متى أصبحت الظروف تعيقك عن مشاهدة عرض مسرحي؟ خفت تحت ضغط الانفعال أن اخسر صديقي, و قمت مسرعا أهرول الى غير اتجاه.. لم تمض سوى بضع دقائق حتى رن هاتفي, فاذا به صديقي الثاني يعتذر مني, و يقسم لي بأغلظ الإيمان أنه لم يسمع بمصابي, و ختم حديثه الي بالقول: - أستسمحك مجددا ، فما عهدتك تتخلف عن نداء المسرح مهما كانت الظروف ، لذلك استغربت، و قمت على سبيل المزاح بتعنيفك.. قدمت بدوري اعتذارا و أنهيت المكالمة، و توجهت تلقاء المستشفى راجلا ، و استغرقت مسافة الطريق في الرد على تساؤلات والدتي و الأهل و الزملاء، ساردا في كل مكالمة قصة الحادث بالتفصيل الممل.. توقف هاتفي للحظات عن الرنين، و تثاقلت خطواتي شرد ذهني و أنا امضي في طريقي، إلى استحضار فترات جميلة قضيتها و أصدقائي في مشاهدة عديد المسرحيات بالمسرح الجهوي ، و المسرح البلدي، و في المهرجانات المختلفة، و بالجامعة.. لقد صدق فعلا صديقاي، إذ لا أذكر أنني ضيعت فرصة مشاهدة عرض مسرحي مذ كنت طالبا ،حتى عندما كان دخلنا الوحيد هو المنحة الجامعية الزهيدة.. عاد هاتفي الى الرنين, و عاودت قص حكاية اصطدامنا في الطريق الاجتنابي الرابع مع سيارة أخرى عشرات المرات حتى وصلت إلى ساحة المستشفى ، وتهاويت و أنا أتصبب عرقا على كرسي حديدي بمحاذاة مصلحة الاستعجالات الطبية..شاهدت و أنا جالس أسترد انفاسي, عشرات السيارات تتوقف, و ينزل منها عجزة و جرحى و مصابين مرفوقين بأفواج من أهاليهم، مندفعين خلفهم نحو باب الاستعجالات.. هالني المنظر و تسمرت في مكاني, ثم حاولت ان أتذكر بعضا من فنانينا الذين استدرجتهم أسرة هذا المستشفى, فلم تسعفني ذاكرتي سوى بأسماء: حمودة بشير, محمد الفيل ، والإعلامي ميلود شرفي صديق الفنانين.. مرت قدامي عجوز تجر جسمها النحيل جرا، و في طرفة عين, تماثل أمام عيني مشهد المستشفى في مسرحية الأجواد, و جوهرة المصنع سكينة, و قدور، و المنور و المنصور، و جلول يجري و يجري.. أعادني عويل بعض النسوة الى المستشفى، و يبدو أنهن فقدن أحد أقربائهن بمصلحة الاستعجالات أو الإنعاش..رن هاتفي من جديد، ان زوجتي تطلبني, لم استقل المصعد, و صعدت أجري الى حيث تتمدد, ووجدتها تتأهب للبكاء من فرط الألم, و طلبت الي أن احضر اليها عبد الكريم في الغد, و أجهش كلانا بالبكاء حزنا على هذا الولد المصدوم المهشم الرأس ، الذي كان يستعد مغتبطا للاستجمام لبضع أيام بحمام بوحجر..نزلت عبر السلالم متثاقلا، و ألقيت بجسدي المنهك على كرسي آخر أنتظر أن تهوي الي أفئدة من أصدقائي، و حضر نور الدين رفقة رشيد، ليقلني إلى بيتي..دخلت البيت فوجدته موحشا معتكرا لا حياة فيه ،و قمت بلا رغبة أبحث عبثا عما تحويه ثلاجتي, عن أي شيء أبتلعه قبل تناول الدواء.. اضطجعت في مكاني, و شرعت أفتش بلا هدف عن برنامج يرخي سدول جفوني , فطلع علي من القناة الجزائرية, صوت الفنان أمحمد بن قطاف, رفقة عز الدين مجوبي و صونيا, فتابعت ما تبقى من مشاهد مسرحية: العيطة ، وغفوت بين مطرقة الألم و سندان الأسى والحسرة على نساء و رجال المسرح الذين فقدناهم, لاسيما في سنوات الفوضى و الجنون أمثال: علولة ، مجوبي ، بن عودة و غيرهم ممن أحبوا المسرح و تجردوا له, و انبروا يقدمون أرواحهم قربانا لانعتاق المجتمع من قبضة أيدي أعداء الحياة و الفكر و الجمال.. أفقت من نومي عند النداء الثاني ، توضأت و صليت، و انتظرت تنفس الصبح و انبلاج الخيط الأبيض، لأتسلل باتجاه مقهى الحي , أرتشف قهوة الصباح ، و أفتح عيني على ميلاد يوم جديد.. في تمام التاسعة صباحا، أكدت لي زوجتي بأنها ستغادر ، و هاتفت على التو صديقي السايح لتدبر وسيلة نقل مريحة باتجاه (قديل).. استنفر الخبر جميع الاهل و الأصدقاء: إبراهيم ,بوبكر، عبدالجليل ، نورالدين و كل العائلة، بالبيت و بالمستشفى، و غادرنا قبيل العصر بعد استنفاذ الإجراءات المضنية ، و التحقنا على متن سيارة إسعاف بالسكن العائلي، ووجدنا الأهل و غير الأهل في استقبالنا عند أعتاب الباب..و خرجت من جديد أجري مثل * جلول الفهايمي * في اتجاه الصيدلية ، و رجعت لاهثا احمل رزمة من الأدوية ، و ألفيت زوجتي قد اتخذت لها مكانا قصيا، و نظرت إلى نظرة إشفاق، و كأنها تنبئني بما سأكابده لوحدي في القادم من الأيام.. تبادلنا النظرات و العبرات في صمت, و انتصبت لطمأنتها رافعا هامتي، و نظرت إلى من حولي في الغرفة ، و استرسلت زوجتي بصوت خافت توصي شقيقاتها بما يلزم وما يلزم، وتمثلت هذا المنظر الوعظي كمشهد درس المعلمة حول الهيكل العظمي في مسرحية الأجواد.. خرجت مبتسما الى فناء البيت دون أن يشعر بي أحد, و استرجعت و أنا جالس ساهم ، مونولوج جلول الفهايمي عن الطب المجاني و العدالة الاجتماعية، و استشعرته يتردد بصوت * سيراط بومدين* في دخيلتي بحذافيره: بكلماته و حركاته و سكناته ، و كأنني أسمعه لأول مرة..سمعت رنين هاتفي, و حدثني ابني من عيادة سيدي براهيم عن استعادته تدريجيا لعافيته و رغبته في البقاء هناك مع عمه الجيلالي و أبنائه ، فأبلغت على الفور والدتي و زوجتي و أفراد العائلة بالبشري ، و تفكرت لحظتها في سري ، عن صدق و عمق الحكمة الأدبية البليغة: كن جميلا ترى الوجود جميلا...