لم أعد أذكر عنوان ذلك الفيلم السينمائي الفرنسي الذي عرض في مُنتصف الثمانيات من القرن الماضي، و الذي يصوّر فيه مُخرِجُه مشهدا لا يزال عالقا بالذهن إلى اليوم، حيث تبدو عربةُ المترو الباريسي مكتظة عن آخرها بمسافرين من مختلف الأعمار، جالسين في المقاعد و متكئين وقوفا على الأعمدة و هم يقرءون جميعا رواية * العاشق * لمارغريت دوراس(1914-1996) كما لو أنهم يقومون بفعل إجباريّ حتّم عليهم أن يشتروا آخر رواية للكاتبة المشهورة، كما لو أنهم أُرغِموا بطريقة أو بأخرى على قراءتها في العربة، رمز الحياة المتنقلة بين محطتين، بسبب امتحان عسير ينتظرهم جميعا عند خروجهم من فوهة مترو الأنفاق فور انتهاء الرحلة. ليس هنا مقام الحديث عن الفيلم الذي لم أعد أتذكر عنوانه، و لا الحديث عن رواية *العاشق* التي حوّلها المخرج جون جاك آنو فيما بعد إلى فيلم يحمل عنوان الرواية نفسه، و هو الفيلم الذي لم يعجب الروائية نفسها، كما أنْ ليس هنا مقام الحديث عمّا تحمله هذه الرواية من تصوّر كولونيالي لا يزال المثقف الغربي يضمّه بين جوانحه أينما حَلّ و ارتحل، بحيث يُغيّب الواقعُ لحساب الذات، و يُغيّب الموضوعُ لحساب السيرة، و يُغيّبُ الحراك الجماعي لمجتمع واقع تحت وطأة الاستعمار لحساب الألم الفردي للكاتب/ البطل/ الراوي و هو يحاول أن يحفر في عُقَدِه الباطنة بسبب الجرح النرجسي العاكس لتصوّر المثقف الغربي و هو يعيش، في حالة رواية *العاشق*، مأساةً عائلية فجّة و مؤلمة تهيمن على خيال الصبيّة مرغريت و لا تفارقه إلى الأبد نظرا للحالة المزرية التي وصلت إليها الذات المُسْتَعْمِرَة و هي تحاول أن تستنجد بما بقي لها من أمل في إنقاذ نفسها عن طريق الكتابة بوصفها مُخلّصا وحيدا ممّا تراكم في عمقها من سطوةٍ كولونيالية إلى درجة أن هذه السطوة التهمت ما كانت تعيشه هذه الذات المُستَعْمِرة من انفصال عن العالم، و من تعالٍ عن المجتمع، و من سطوة كانت تعتقد أنها لن تزول. ثمة شبه متخفٍّ بين حالة ألبير كامو في رواية *الغريب* و حالة مارغريت دوراس في رواية *العاشق* من حيث الاهتمام بمأساة الذات الفردانية و تقصّي مصائرها الغامضة من خلال تعمّد تغييب مأساة الوجود المعمّمة في الواقع الكولونيالي والرابضة في خلفية الروايتين و كأنها هي موضوع الروايتين الحقيقي الحاضر بقوة جراء هذا التغييب المتعمد. ثمة شبه بينهما لولا أن الفتاة الشابّة، بطلة الرواية، و ضمير الروائية مارغريت دوراس، تقع في حبّ شاب شرقيّ مُخلِّصّ(شولان) هو شاب صينيّ و ليس فيتناميا، ثريّ و ليس فقيرا، وسيم بمواصفات ديونوسية و بسَحنات شرقية و ليس فيتناميا فقيرا يلبس قبعة هرمية و يجرّ عربة مترهلة تحت سماء سَايْغُن الحزينة أو يسكن في بيت عائم على ضفاف الميكونغ حيث حظ الالتصاق بالحياة يكاد لا يعادل حظ التصاق السمكة المتخمة بصنارة الصياد الجائع. إنها نفسها الصورة الخلفية للعلاقة الصدامية بين الشرق و الغرب ممثلة في هذه المرّة بالشابة مارغريت من جهة، و بالشاب الصيني الثري من جهة أخرى، حيثتغيب حقيقة المجتمع المُستَعمَر و يتوقف كلّ موضوع الرواية على مدى تحقّق فكرة اكتشاف الشرق عن طريق تحقيق رغبات الجسد و تجاوز مُحبطات الحياة التي تُراكِم عُقَد البطلة بالنظر إلى علاقتها بأفراد أسرتها، كما تريد له سيرة الحياة بالمفهوم الغربي أن يكون وفق الصياغة العابرة لموجات الفكر المتجدد بصورته الاستشراقية تارة ، وبصورته الوجودية تارة أخرى، و بصورته العبثية ما بعد الحداثية تارة ثالثة. ذلك أن رواية *العاشق* هي نفسها سيرة الكاتبة نفسها في الهند الصينية- بحسب التسمية الكولونيالية- في فترة الثلاثينات من القرن الماضي، مضافا إليها الكثير من بهارات التخييل المشبعة بتوابل الهند الصينية، حيث وُلِدت الكاتبة و تربّت و عاشت جزءا من المأساة العائلية التي تخيلتها في الرواية فاستولت على تفكيرها و صاغت معالم تحركها داخل مجالات الكتابة، مُعيدةً، في كلّ مرّة، صياغة القصة نفسها بمعطيات الفكرة الغربية المتجددة عن الذات و ما يعترضها من مصاعب و من عقبات. لقد كانت مارغريت دوراس نفسها مُخرِجة سينيمائية إضافة إلى كون روايتها هذه حُولت إلى فيلم، و استغل مخرجون آخرون أثر نجاح روايتها الباهر على القراء، حين صدورها، في أفلامهم، حتى لكأن الحياة كلّها، و نحن نقرأ عن سيرة هذه الكاتبة، تبدو عبارة عن فيلم متعدّد حدّ التكرار، و مُشوِّق حّد الإزعاج، و طويل حدّ الملل، و مفروضٌ على ركاب عربة الحياة المكتظة أن يشاهدوه حدّ انتهاء الرحلة، تماما كما فَرَضتْ عليها تجربتُها الحياتية أن تُعيدَ كتابةَ سيرتها الذاتية في محاولة أولى في بدايات علاقتها بالكتابة و هي شابّة، ثم في رواية نالت بها جائزة الغونكور سنة 1984 و هي في قمّة مجدها الأدبي المتصل بالفتوحات التي حققتها موجة الرواية الجديدة في فرنسا، ثم في محاولة ثالثة و أخيرة أرادت من خلالها أن تستعيد ما بدا لها غير مكتمل في النسختين السابقتين أو غير منسجم مع القناعات التي توصلت إليها و هي في أواخر حياتها. إن ما تحيل إليه صورة ذلك المشهد الذي تتحرك فيه الكاميرا من أول العربة إلى آخرها مُركِّزة على حالة الانهماك الكبير للمسافرين الجالسين و الواقفين داسّين رؤوسهم بين دفتيّ الرواية - بحيث تلتصق أغلفتها التي تحمل عنوانا واحدا هو *العاشق* بأجسادهم كما لو أن كُتب العالم جميعها تحمل عنوانا واحدا- ليس فعل قراءة الرواية في حدّ ذاته، نظرا لترسّخ تقاليد القراءة في وعي الإنسان الغربي كما في واقع حياته اليومية، و إنما هو الصورة التي يقدمها المشهد عن حالة الاستلاب الجماعي الذي يمكن أن تُحْدِثَه سيرةٌ ذاتية ما في جموع القراء و هم يسارعون إلى القبض على خيوطها كما يسارع الغريق إلى القبض على حبل النجاة في حالة تشبه التعلق الشبقي بما حصل للبطل/ الراوي/ المؤلف خوفا من أن يحدث لهم ما حدث له، أو أملا في أن يحصل لهم بعض ما حصل له. ذلك أن الأمر يتعلق فعلا بالشخص نفسه في صوره المتعددة و هو يحاول أن يكتب قصته التي هي قصة بطله التي يرويها بنفسه، بطرق مختلفة و في أزمنة مختلفة و كأنما هناك قصة واحدة لكاتب واحد هو نفسه البطل، و التي يجب أن يقرأها القراء في كل الأزمنة بصورة مختلفة و لكن بهدف واحد هو الوصول إلى فهم حالة واحدة حصلت لكاتب واحد و صدرت في كتاب واحد بروايات مختلفة، و بترجمات مختلفة و في أزمنة مختلفة. إنه التعلّق الأعمى، في إحدى صور العمى، و هو يسري في عروق القراء المتعددين المتجددين، تماما كما دكتاتورية الموضة التي تحدث عنها رولان بارت، لتكريس مبدأ دكتاتورية الرواية بوصفها مسلكا وحيدا لخلاص الذات، جمعية كانت أم فردية، ممَّا علق بها من أدران لا مبالية بمأساة الآخر. فمن قال إن أشعة شمس الشاطئ الوهرني اللافحة لا تترك أثرا لا يُمحى في حياة المتعلقين بغريب ألبير كامو؟ و من قال إن عبور نهر الميكونغ لا يترك أثرا لا يمحى في حياة المتعلقين بعاشق مارغريت دوراس؟