لم تكن هذه الزيتونة إلا ملاذا يلجأ إليه عندما تشتد عليه وطأة الذكريات وتتحرك في محيط القلب الجريح أمواج الأشواق العاتية .. شجرة الزيتون القابعة بهذا المكان من سنين طوال وحيدة مثله تعبث بها عواصف الزمن ،لكنها ثابتة لا تتزعزع ، بقرب مقبرة القرية وفي هذا المكان المرتفع تحرس الموتى، هي شاهدة على كل الذين رحلوا وكان مأواهم هذه المدينة الصامتة . كان « سي أحمد» صاحب السحنة السمراء والجسم الطويل والعينان السوداوان، يجد راحته تحت ظل شجرة الزيتون، هنا التقى ب « كاهنة « زوجته التي يزورها باستمرار ويترحم عليها، يجثو على ركبتيه أمام قبرها ويخبرها عن صعوبات الحياة،عن الفراغ الذي تركته ،عن يوغرطة الذي ركب زوارق الرحيل إلى مدن بعيدة ولم يسمع عنه خبرا ،وسرعان ما تنفجر الدموع في مآقيه فتسيل على خديه ،يبكي بحرقة ،كطفل صغير فقد أعز ما يملك . لم يستطع أن ينسى كاهنة،رغم مرور ثلاث سنوات على رحيلها وكم ألحوا عليه أن يتزوج مرة أخرى لكنه رفض،وكان يتهرب بشتى الحجج من فكرة الزواج. تحت هذه الشجرة وبعد زيارتهما للمقبرة للترحم على الموتى،يصعدان إلى هذا المكان ،المشرف على القرية ويتبادلان أطراف الحديث ،كان يطلب منها أن تنظر إليه ،فيحدق في عينيها الخضراوين،»أنت جميلة ،أجمل امرأة رأيتها في حياتي» . تطأطئ رأسها حياء وتخرج الكلمات من فمها مفعمة بالحب :صحيح . تحمر وجنتاها وسرعان ما تمسك غصنا أمامها وتخط به بالأمازيغية «أحبك «، كان سي أحمد يطير من الفرح ينتفض قلبه كعصفور بلّله القطر،يسافر إلى عوالم السعادة والبهجة. كل هذا رحل فجأة ،ضيع كل ما يربطه بالحياة،لم تبق إلا زيتونة الذكريات،إنها شاهدة على حبهما،إنه يشعر بأنها حزينة لقصته ،لو كانت تتكلم لوسته ومسحت دموعه ،ينهض من مكانه يستدير إلى الشجرة،يضع رأسه عليها ،ينتحب،يجهش بالبكاء. «يا إلهي ساعدني،ساعدني،اشف جراحي» رفع رأسه على زخات مطر أيلول،نظر نظرة أخيرة إلى المقبرة ومضى في دربه .