منذ 22 فبراير والشارع الجزائري يفصح بوسائله الخاصة، وبذكاء لا مثيل له عن كل التراكمات التي تخزنت في عمق الشعب بمختلف فئاته وأطيافه وأجياله. الشباب الحاضر بقوة هو جيل العشرية السوداء، عشرية الإرهاب التي أتت على الأخضر واليابس والتي سرقت العمر من مئات الجزاريين من مختلف الفئات والأعمار والمواقع الاجتماعية « الشرطة الجيش المجاهدين الدفاع الذاتي الصحفيين الكتاب الفنانين الأطباء السياسيين الإطارات، لم يسلم حتى الرضع ومن هم في بُطُون أمهاتهم». هذا الشهر وحده، شهر الربيع وتفتح النوار، شهر مارس يذكرنا بالعشرات من الضحايا؛ «عبد القادر علولة،الهادي فليسي، أحمد ورابح عسلة، لحرش واسيني، الجيلالي اليابس، حفيض سنحدري، محمد عبد الرحماني، عرابديو الجيلالي، عبد القادر حيرش، حسان بن عودة، عمور يحيى، بلقاسم تواتي، رهبان تيبحرين، عبد الوهاب بن بولعيد ابن الشهيد بن بولعيد، الراهبة بولا هيلين سان ريمون، رشيدة حمادي وأختها حورية...» والقائمة تطول بعمق الجرح الذي لم يندمل بعد؛ لأن ذاكرة الألم لا تنسى، حتى وإن غفت قليلا فهي تحفظ رغما عنا كل التفاصيل وملامح الذين غابوا ولون الدم الذي أريق. كل واحد وجد لحنه الجماعي أو الفردي وسط أمواج من البشر، التي تحولت إلى طوفان على المستوى الوطني؛ فهناك من من وجد في الرمز وسيلة لإيقاظ الذاكرة فرفع لافتات وصورا لشهداء ثورة التحرير وشهداء العشرية السوداء والمخطوفين، رفعت عاليا وألصقت وعلقت على الصدور وثبثت على الحيطان، وهناك من وجدها في الكلام الذي نطق به الذين ذهبوا وتركوا وراءهم حكما أو كتبا ما تزال مستمرة في الذاكرة الجمعية، كلهم كانوا معنا في كل المدن والشوارع يتصدرون المسيرات، ينظموها يؤطرونها، مؤكدين على سلميتها وتحضرها. هناك من استعادوا الغائبين عن طريق المؤسسات التي أنشئت على شرف أرواحهم الطيبة»مؤسسة بلخنشير، مؤسسة علولة، مؤسسة عسلة، مؤسسة الجيلالي اليابس»، وعن طريق الفنانين الذين أبدعوا في اللون والتحريض على الجمال والجمال وحده. امتزجت الابتسامة بالدموع بالفرح بالصراخ بالزغاريد للإفصاح عن غصة تكدست لسنوات لتنفجر بركانا مسالما وطوفانا باحثا عن نوح جديد « يا عميروش يا الحواس الجزائر ماشي لا باس» «جزائر حرة ديمقراطية» « تسقط الجهوية يسقط كل من فرق». وسط كل هذا الزحام ووسط كل هذه التموجات البشرية الرائعة وجوه أخرى ترى في كل الوجوه ابنا غائبا أو إبنة مغتصبة ومخطوفة، تعبر عن شوق ما بلمسة أو بدمعة صامتة أو بضمة مفاجئة لغريب لم يعد غريبا في تلك اللحظة الأسطورية . رأيت أمهات وجدات يقسمن بأسماء الغائبين . رأيت دموع الشيوخ وبكاءهم الجارح في المسيرات والشرفات وهم يرفرفون بالعلم. وهناك من الأمهات من منحن كل أجسادهن وأرواحهن لأبنائهن لإعادتهم إلى الحياة ولو رمزيا وروحيا بكل قوة وكأنهم لم يغبوا، مثل تلك الأم التي جابت شوارع بسكرة مرتدية اللباس العسكري الذي ارتداه ابنها الدركي حتى آخر يوم في حياته قبل أن تغتاله اليد الإرهابية الغادرة، أم شامخة وبكل كبرياء تمشي في جسد ابنها، يسري في دمها وتسري في دمه بنار الحزن وحرقة الكبد، مصممة أنه يمشي معها ومع كل من خرجوا من أجل الجزائر الجديدة . كم قهرتني تلك الصورة، أنا التي تحتفظ في بيتها ببدلة شهيد لا زالت مثبتة فيها علامات الدم وثقب الرصاص الذي أفرغه فيه المستعمر.