23 سنة مضت على أحداث 5 أكتوبر 1988، الشهر الذي ارتبط بالمآسي في ذاكرة الجزائريين، وسالت فيه دماؤهم في الكوارث الطبيعية وبرصاص الأمن.. لكن الحديث عن هذا التاريخ عاد بقوة هذه السنة والمنطقة العربية تعيش ظروفا استثنائية، بوصول رياح التغيير إلى ضفافها في الوقت بدل الضائع، بالنسبة للجزائريين المتفاخرين بأسبقيتهم في الثورة على النظام منذ أكثر من عقدين، لكن يبقى صعبا أن تدفع الجزائريين للحديث عن تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم الخريفي..''الخبر'' استوقفت عينات من شباب أكتوبر لترافق خطواتهم في يوم أربعاء مثل هذا اليوم، لكن قبل أكثر من عقدين. يتذكر سيد علي دايخة، ابن حي ديار الشمس، الذي كان في الثانية والعشرين من عمره في ذلك التاريخ، تفاصيل الخامس من أكتوبر 1988 وكأنه يعيشها اللحظة، اليوم الذي لم يكن قبلا أكثر من تاريخ عادي على الأجندة، لكن غروب شمسه على الجزائر العاصمة تحديدا لم يكن أبدا كشروقها. يقول سيد علي، 45 سنة، الذي كان طالبا في تخصص الاقتصاد بجامعة الخروبة: ''قبل ذلك اليوم كنا نعيش أزمة حقيقة وندرة في المواد الأساسية، لكن لا شيء كان ينبئ بأن الغضب سيغمر الشارع.. يومها سمعنا في الجامعة حديثا عن قطع الطريق وإضرابات عمال مؤسسة ''سوناكوم'' في ضواحي الرويبة ليس أكثر، لكن بخروجنا من الحرم الجامعي أدركنا أن شيئا ما يحدث ونحن نشاهد دخانا يتصاعد من نواحي الرويسو''. كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية زوالا عندما غادر سيد علي ورفيقاه بوابة الجامعة في ذلك اليوم الحار، ولأن النقل الجامعي كان غائبا على غير العادة، اضطر ثلاثتهم إلى الذهاب سيرا باتجاه حي ديار الشمس بالمدنية.. ومع ذلك لم يكن مسارهم اليومي عاديا. يسترجع سيد علي ذكريات ذلك اليوم فيقول: ''لم نجد أي وسيلة نقل، في طريقنا كانت تمر الحافلات بسرعة جنونية ودون ركاب باتجاه مستودع الخروبة، وكان الزجاج الأمامي لبعض الحافلات محطما، وبوصولنا إلى حسين داي (بروسات) تحديدا، لمحنا حوالي 100 شاب يتظاهرون ويحطمون كل ما وجدوه أمامهم، وما فاجأني ورفاقي أنهم كانوا يرددون شعار ''الشادلي أساسان''، كان الأمر غريبا وجديدا بالنسبة لجيلنا، لم نتعوّد قبلا سماع شعارات مناوئة للسلطة''. الوصول إلى ''الرويسو'' لم يكن سهلا بالنسبة لسيد علي ورفاقه، فالمسار الذي لم يكن يستغرق منهم عادة أكثر من 45 دقيقة دام ساعات، وهناك تجمع 200 شاب كانوا يحطمون كل شيء، لكن المفاجأة كانت بوصول قوات الأمن، حيث هاجم المتظاهرون سيارة الشرطة بالحجارة دون أن يحرك عناصر الأمن ساكنا، في مشهد لم يسبق أن عاشه جيل ما بعد الاستقلال. وصل سيد علي ورفيقاه إلى حي بلوزداد الشعبي بعد الرابعة مساء، المشهد هناك كان أكثر من درامي، يواصل محدثنا: ''ما شاهدته في ذلك اليوم كان تحولا بنسبة 180 درجة في الجزائر التي عرفتها سابقا، في بلكور كانت المرة الأولى التي أشم فيها رائحة الغاز المسيل للدموع.. حقا المشهد ذكرني بفلسطين، وهناك حقا شعرت بالخوف والرعب من ما يحدث، شباب ساقط أرضا وآخرون يحاولون إيقاظهم برش الخل على وجوههم، ثم مواجهة أخرى بين عناصر الأمن وشباب الحي في''مارشي ,''12 لكن بمجرد وصولي إلى شارع نصيرة نونو اضطررت للعودة أدراجي بعد أن سمعت الجميع يردد بأن قوة كبيرة من الشرطة قادمة باتجاه بلكور''. ولأن طمأنة العائلة كان أكثر ما يهم سيد علي في تلك الأثناء اجتهد في البحث عن هاتف عمومي غير محطم للاتصال بالبيت، وتمكن بشق الأنفس من إيجاد واحد والحديث إلى أهله الذين نصحوه بإيجاد مكان يبيت فيه وتجنب العودة إلى البيت لأن الطريق خطر وأعمال الشغب في كل مكان. ''مساعدية سرّاق المالية'' و''الشاذلي أساسان'' وفي غياب تام لوسائل النقل، سار سيد علي على الطريق السريع مشيا على الأقدام باتجاه الرغاية إلى منزل شقيقه، ليصل ليلا، وهناك كانت الشرطة تطوّق المكان فيما تجمهر عدد كبير من السكان بالقرب منهم دون أن تكون بينهم مواجهات. اقتصر مبيت سيد علي في بيت شقيقه على ليلة واحدة، حيث قصد في وقت مبكرا من صبيحة 6 أكتوبر بيته في حي ديار الشمس عبر القطار.. ''الصبيحة كانت هادئة لكن بحلول المساء عادت أعمال التخريب من جديد، وهاجم الشباب مصنع مشروبات غازية قرب الحي، وهو المصنع الذي اكتشفوا بعد سنوات من جيرانه أنه ينتج أيضا المشروبات الكحولية، لتصل أعمال التخريب إلى مقام الشهيد.. الأيام التي بعدها طوّق الجيش أحياء العاصمة وتوقفت الحياة وبدأنا نسمع شعارات جديدة على غرار ''مساعدية سراق المالية'' وغيرها''. يضيف محدثنا: ''لم أكن أغادر الحي بينما كانت أنباء القتل تصل إلى أسماعنا، خاصة بعد مسيرة الاثنين في باب الوادي التي سقط فيها العديد من القتلى، ثم توقيف الكثير من أبناء الحي بعد عودة الهدوء واسترجاع المسروقات''. بالنسبة لسيد علي أكيد أن الجزائر تغيرت بعد ذلك التاريخ، لكن بالنسبة إليه، فإن شهادته الجامعية لم تسعفه في الظفر بمنصب شغل يحفظ له العيش الكريم، حيث وظف في بداية التسعينيات في مؤسسة عمومية بمرتب لا يتجاوز 5 آلاف دينار يقبضه متأخرا بستة أشهر، غير أنه غيّر من وضعه للأحسن، حيث يعمل اليوم موزعا للمشروبات. ويختتم سيد علي شهادته فيقول: ''نحتاج لإصلاح اجتماعي نعم.. لكن لسنا مستعدين لاستنزاف المزيد من دماء الجزائريين''. هاجمنا ''المونوبري'' لم تختلف رواية فريد، ابن حي بلكور الشعبي، والشاهد على أحد فصول أربعاء الانتفاضة، عن رواية سيد علي.. فريد وعلى الرغم من الانفتاح والحرية التي يعتقد الجزائريون أنهم يعيشونها، رفض نشر صورته. كان فريد شابا في الثامنة عشرة، مقبلا على اجتياز امتحان شهادة البكالوريا.. واليوم هو يتولى منصب مدير تجاري في مؤسسة خاصة لتوزيع أجهزة الكمبيوتر، يقول محدثنا: ''أذكر بأننا ذلك اليوم غادرنا الثانوية مبكرا، لم يكن أي شيء يدل على أن أمرا ما سيحدث، لكن في طريقنا إلى البيت بدأنا نرى مواجهات مع أفراد الشرطة، لكن في أول يوم لم يكن هناك قمع، ولا أنكر أنني رافقت أبناء الحي في مهاجمة ''المونوبري''. كان الجميع يردد ''إنه حقنا الذي يذهب تحت الطاولة إلى ''أصحاب الفوق''، بينما لا ننال إلا الفتات''.. الجميع كان يتحدث عن ''ندرة الزيت والقهوة والسكر''.. لكن في سوق الفلاح وجدنا كل شيء''. ''الشاذلي ''فهمنا'' قبل بن علي بعقدين'' يؤكد فريد أنه مشى مع أبناء الحي وجاب معهم زنقات حي بلكور دون أن يعرف الغاية أو الهدف من ذلك.. ''بالنسبة إلى من رافقتهم، كان تحطيم كل ما يرمز للدولة هو الوسيلة المتاحة لإسماع صوتنا لمن هم فوق رؤوسنا منذ عقود.. كان الجميع يهتف ''يا بومدين حفرونا'' و''الشاذلي أساسان''.. وخاصة ''مساعدية سراق المالية''، كانت شعارات جديدة لست أدري كيف تبناها الجميع في ظرف قياسي.. الشرطة لم تبد أي مقاومة والجميع يحطم كل ما أمامه. وفي وجهتنا إلى (الرويسو)، حيث مقر وزارة التربية، لم نكن أول من وصل، فقد سبقنا إلى هناك آخرون وتكفلوا بحرقها بالكامل، بعدما هجرها الموظفون كما أضرمت النار في ''المونوبري'' الذي لا يزال مغلقا إلى غاية اليوم''. لكن بالنسبة إلى فريد، اختلف المشهد في اليوم الثاني والثالث، مواصلا: ''رأيت بأم عيني في الأيام التي نزل فيها الجيش والشرطة للشارع وطوّق العاصمة، الضرب بالرصاص الحي.. في نصيرة نونو سقط شاب أمامي رميا بالرصاص، كان الرصاص الحي يمر فوق رؤوسنا مثل ''حبات البلوط''، لم تكن رصاصات طائشة كانت مسددة بدقة إلى أجساد المتظاهرين شبه العارية في بلكور وساحة أول ماي، حيث سالت دماء غزيرة''. وإن خيم صمت طويل بيني وبين محدثي وهو يسترجع هذه الذكريات، إلا أن الابتسامة سرعان ما عادت إليه وهو يستحضر كلمات الرئيس السابق الشاذلي بن جديد، في الخطاب الذي وجهه إلى الشعب لدعوته إلى الهدوء: ''أتعرفين نحن الجزائريين لا نقول دائما إننا سبقنا بقية الشعوب العربية اعتباطا، بن جديد ترجى الشعب وبكى وقال فهمتكم قبل بن علي بعقدين''. اليوم لم يعد فريد ذلك الطالب الثانوي، إنه إطار في مؤسسة خاصة، يؤمن بأن ما حدث أكتوبر غيّر الجزائر، سواء أكان ما حدث هبة عفوية من الجماهير أو حدثا موجها، بالنسبة إليه جزائر أخرى ولدت بعد ذلك اليوم، لكن في رأيه لا يمكن للمخاض الذي تعيشه الجزائر حاليا أن يؤدي إلى ميلاد التغيير المنشود. ''باب الواد الشهداء'' باب الوادي.. لا يمكن الحديث عن غضب الشارع الجزائري منذ تاريخ الخامس أكتوبر من سنة 88 دون التوقف عند الحي العتيق، الذي سجل أكبر حصيلة من القتلى في ذلك التاريخ. محمد. ب، الذي كان في ربيعه العشرين وقتها، وكان يشتغل حلاقا في محل والده، يتذكر جيدا تفاصيل ما حدث: ''ما أتذكره أن كل شيء حدث فجأة دون تحضير، يومها غادرت مبكرا على غير العادة محل والدي، بعد أن أبلغني أصدقائي أن البعض هاجم أسواق الفلاح وحافلات ''الرستيا'' وكل ما يرمز للسلطة، تركت مئزري وغادرت المحل، ملامح باب الوادي تغيرت في لحظات، إضرام للنار وتكسير، ثم روائح الغاز المسيل للدموع، دون أن تكون هناك مواجهة حقيقية مع الشرطة''. يبتسم فريد قبل أن يواصل: ''أتذكر أن البياض امتزج مع دخان الحريق في باب الوادي، فالجميع اقتنص أحذية رياضية من علامة (ستانسميث)، حتى أن شباب الحي بعد نهاية الأحداث كانوا يرددون أغنية تقول كلماتها: ''يا الشاذلي يا بن جديد.. الجزائر ولات بيضاء.. اللي ما لبسش ستانسميث يستنى فيرة (حرب) جديدة''. لكن ابتسامة محمد لم تدم طويلا وهو يتذكر تفاصيل اليوم الخامس من الأحداث، ''سمعنا بمسيرة تتجه صوب باب الوادي، كنت ورفاقي في طريقنا إلى المكان، غير أن صوت الرصاص القادم من الساحة المجاورة لمقر المديرية العامة للأمن الوطني أعادنا أدراجنا، صوت الرصاص كان قويا حتى أنه خيل إلينا أن العاصمة تتعرض لقصف جوي، ثم بدأ صوت سيارات الإسعاف.. لكن سرعان ما عدنا إلى المكان لتقصي ما حدث خاصة أن العديد من أبناء الحي كانوا متواجدين في المكان، ولكن لا يمكنك أن تتصوري كمية الدماء التي كانت في كل مكان، وجثث القتلى مغطاة، لم تتسع سيارات الإسعاف لنقلها جميعا، فيما كان رجال الحماية المدنية يقومون بتنظيف الفضاء من آثار الدماء.. عويل النسوة كان يسمع في العديد من البيوت، وهنا سمعنا لأول مرة شعار باب الواد الشهداء''. غالبت الدموع محمد وهو يحدثنا، قبل أن يقول: ''بدني يقشعر وأنا أتذكر ما حدث، ورغم أنني عايشته بأم عيني إلا أنني بعد كل ما مرّ من سنوات لم أفهم ما حدث حقا''. محمد يزاول مهنة الحلاقة في محل والده الراحل.. رب أسرة مكونة من أربعة أفراد، يرى في أكتوبر 88 منعطفا بدّل وجه الجزائر، لكن وعكس الآخرين، يرى أن ما كسبه الجزائريون منذ ذلك التاريخ لم تدم فرحته طويلا بعد أن غرقت الجزائر في عشر سنوات عجاف من الدماء والدموع. الجيش يطوّق العاصمة أما عبد العزيز، ابن حي العربي بن مهيدي، الذي كان يشتغل سائق أجرة وقتها، فقضى تلك الليلة في بيت شقيقته التي تقيم وحدها رفقة صغارها ب''ميريمار''، وفي طريقه إليها كان عليه تجاوز جموع المتظاهرين الذي كانوا يغادرون أسواق الفلاح محملين بسلع غابت عن بيوت الجزائريين لأشهر، ليتذكر: ''كل شيء حدث دون تحضير مسبق، العاصمة تحولت إلى حطام وكأنها خرجت من الحرب في لحظات.. البعض استغل غضب الشارع ليحوّله عن مساره''. يضيف محدثنا وهو في 58 من عمره: ''لم يكن سهلا علي الوصول إلى بيت شقيقتي، وحتى مغادرته كل صباح، عربات الجيش كانت تطوّق العاصمة، وعناصر الأمن منتشرة في كل الشوارع...''. يتوقف برهة ثم يواصل ''حتى وإن لم أكشف عن هويتي إلا أن الحديث عن ما شهدته يشعرني حقا بالرعب، في الطريق الرابط بين بولوغين ومستشفى مايو، رأيت أفراد الجيش منبطحين أرضا وهم يوجهون سلاحهم على المارة، ولمحت بعض المتظاهرين وهم يتساقطون أمامهم، كان مشهدا مروّعا ذكرني بالأفلام الثورية''. ويرى عبد العزيز، وهو اليوم سائق بمؤسسة خاصة، بأن ''أكتوبر 88 صفحة طويت من تاريخ الجزائر، نتوقف عندها لاستشراف مستقبل أبنائنا وأحفادنا.. أما نحن فقد ''طاب جنانا''''.