ولأن الموت دائما كان سريعا، لا يمهل ولا ينتظر، جاء الخبر بسرعة الحزن، لم ينتظر لا الحمام الزاجل، ولا قوافل الجمالة، ولا ساعي البريد. الجرح والرحيل واندهاش الطفولة ووجوه الغائبين والمخيمات والشتات والحلم بالعودة والمفاتيح المخبأة في صدور الأمهات والخرائط المسروقة من عيون من رسموها ذات جرح، وبحة الفتيات الهاربات والمشردات ووجه القدس بكل أحجارها العتيقة ومساجدها وكنائسها ومعابدها، والحواجز والمعابر بكل قساوتها، الأشياء الصغيرة والكبيرة المكومة عند مفترق الرحيل والشوق الذي يشيخ، الكل يأتي دفعة واحدة مثل العواصف ومثل الطوفان ليسكنوا القصيدة المؤجلة التي لم تكتب بعد، التي نامت طويلا تحت وسادتك وبين أنفاسك وهي خائفة من رحيلك المفاجئ. أنت الذي خلقت لصمت الأمهات وصمت الأمكنة وجرح الحنين لغة لها ارتعاشة ريش الحمام وهشاشة أجنحة الفراشات وغصة النائحات في الأماكن القصية. من تربة فلسطين ذرة ذرة ومن دماء شهدائها قطرة قطرة ومن حلم عرائسها لمعة لمعة ومن عطر قهوتها وهيلها وخبزها جمرة جمرة، ومن لون ليمونها وبرتقالها وزيتونها، ومن كل همسة ولمسة في تراثها، نسجت القصيدة وجدلت حروفها وطرزت صورها، وجعلت منها ألحانا وأغاني لا تذبل ولا تموت، من منا لم تسكنه « أشهد يا عالم» « يا بنت قولي لأمك» « غزة والضفة» « صبرا وشاتيلا « «يا شعبي يا عود الند» « والله لأزرعك بالدار يا عود اللوز الأخضر»، وكل ما سمعناه من شعرك المرهف القوي والقاسي الجميل والجارح مع فرقة العاشقين التي حملت في القلب والذاكرة فلسطين ولبنان وسورية والعراق وكل الجرح العربي الغائر. كنا في بداياتنا وكنت قارئنا الجميل والعين النبيهة والمتأملة، كنت المشجع المرهف وأنت تقرأ كتاباتنا وتجاربنا الأولى في دمشق، كنت الحاضر دوما في كل لقاءاتنا، تلك الحميمية التي كنا ننظمها في بيتنا كل الخميس، لتشرع وقتها أبواب اتحاد الكتاب الفلسطينيين لكل الأصوات الجزائرية التي احتضنتها سورية ولفتها بدفئها ومحبتها، أتذكر جيدا ذلك المساء الجميل في الثمانينات عندما استضفتنا واسيني وأنا في مقر اتحاد الكتاب الفلسطينيين وسط جمهور جميل من كتاب فلسطينيين وسوريين ومن بلدان عربية أخرى، ونظمت لنا أمسية أدبية كانت من أجمل أماسينا في سورية، قدم واسيني روايته الجديدة التي صدرت يومها بوزارة الثقافة والإرشاد القومي « وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر» وأنا مجموعتي الشعريتين « من منا يكره الشمس « الصادرة عن اتحاد الكتب العرب و«أرفض أن يدجن الأطفال» الصادرة عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي، كنت سعيدة أنا الكاتبة الشابة آنذاك أن تستمع لشعري قامات أدبية أعتز دوما بها وبكتاباتها. ليس لي ما أضيف صديقي العزيز إلا قبلة على جبينك البهي، وأن أنحني أمام قامتك وقامة شعرك بقصيدتك: «حكاية الولد الفلسطيني» لأن الورد لا يجرح قتلت الورد , لأن الهمس لا يفضح ساْعجن كل أسراري بلحم الرعد أنا الولد الفلسطيني أنا الولد المطلّ على سهول القش والطين خبرت غبارها، ودوارها، والسّهد وفي المرآة أضحكني خيال رجالنا في المهد وأبكاني الدم المهدور في غير الميادين تحارب خيلنا في السند ووقت الشاي نحكي عن فلسطين ويوم عجزت أن أفرح كبرت، وغيّرت لي وجهها الأشياء تساقطت الجراح على الربابة فاْنبرت تصدح بلاد الله ضيقة على الفقراء, بلاد الله واسعة وقد تطفح بقافلة من التجار والأوغاد والأوباء أياْمر سيدي فنكب أهل الجوع والأعباء؟ أتقذفهم ومن يبقى ليخدمنا؟ إذن تصفح؟ ويوم كبرت لم أصفح حلفت بنومة الشهداء بالجرح المشعشع فيّ: لن أصفح أنا الرجل الفلسطيني أقول لكم: راْيت النوق في وادي الغضا تذبح رأيت الفارس العربي يساْل كسرة من خبز حطين ولا ينجح فكيف بربكم أصفح؟ أنا الرجل الفلسطيني أقول لكم :عرفت السادة الفقراء وأهلي السادة الفقراء وكان الجوع يشحذ ألف سكين وألف شظية نهضت من المنفى تناديني غريب وجهك العربي بين مخيمات الثلج والرمضاء بعيد وجهك الوضاء فكيف يعود؟ بالجسد الفتي تُعبّد الهيجاء سنرفع جرحنا وطننا ونسكنه سنلغم دمعنا بالصبر بالبارود نشحنه ولسنا نرهب التاريخ ولكنا نكونه جياع نحن طاب الفتح ان الجوع يفتنه جياع نحن وماذا يخسر الفقراء؟ إعاشتهم مخيمهم ؟أجبنا أنت ماذا يخسر الفقراء أنخسر جوعنا والقيد؟ أتعلم أن هذا الكون لا يهتم بالشّحاذ والبكّاء؟ أتعلم أن هذا الكون بارك من يرد الكيد علمت إذن؟ ليغل وطيسنا المخزون في كل الميادين لتغل مخيمات القش والطين أنا العربي الفلسطيني أقول وقد بدلت لساني العاري بلحم الرعد ألا لا يجهلن أحد علينا بعد