أظهرت ثورة الابتسامة، بداية من 22 فبراير 2019، محدودية الكتابة التي راهنت على الاشتغال بعيدا عن الاهتمامات الفعلية لمجتمع شبه مهمش في المنجز الفني القائم، مع أنه جوهر ثابت يتعذر تجاوزه لأنه يتلقى ما نبدعه نحن، بالقراءة والفحص والمساءلة والتفسير والتأويل، أي أنّنا نوجه له ما نتخيله وما نراه في سياقات من حيث إننا لا نصدر لذواتنا وحدها، كما يمكن أن تزعم بعض الأقلام التي تدّعي الاستقلالية الكلية عن المحيط الخارجي، على الأقل في بعض المقالات والتصريحات التي ترى أنّ الجهد الأدبي، والفني بشكل عام، غير ملزم بأي ارتباط يقلل من قيمته السردية أو الشعرية والبلاغية. المؤكد، رغم كلّ التحفظات، أنّ هذا الطرح له ما يسوّغه فنيا لأنه يمنح الأولوية للنص قبل أيّ شيء آخر، على حساب التنازلات الممكنة التي قد تلحق ضررا بالكتابة كأداة بحاجة مستمرة ترغب في الإعلاء من شأنها، دون الوقوع في التقريرية المقيتة، أو في النزعة التبسيطية المدمرة التي عرفها بعض الأدب، عبر التاريخ، لارتباطه بالقرار السياسي والموقف الأيديولوجي الظرفي. نتذكر ها هنا، على سبيل التنبيه، ما حصل لبعض الأدب الاشتراكي في عهد ستالين وجدانوف عندما فقد الإبداع شخصيته وغدا انعكاسا إملائيا لمنظورات النظام وخياراته. الأدب محق إذن في بعض الطرح إذ يحافظ على فنيته الضرورية كونها تمنحه قيمة وديمومة في الزمن، أو كما تؤكد المقولة النقدية الذكية: «النص الأدبي الجيد هو النص الذي ننتهي من قراءته ولا ننتهي».هذا الفهم لطبيعة الكتابة ورقيها ظلّ قاعدة، وقد يكون من وراء ظهور مدارس أوغلت في هذا المنحى: الدادائية، الفن للفن، التكعيبية، الكتابة البيضاء، وغيرها من النزعات التي تشبّعت بالموضوعات الاجتماعية والقيمية فاختارت منحاها بعد قراءة وتمثل كبيرين، بعيدا عن أي امتصاص آلي للمتواتر في المجتمع، لذا اختارت التجريب والنأي عن المعيش الذي غدا في الدرجة الثانية، أو أدنى من ذلك بكثير. لكن المجتمعات، في أغلبها، متباينة ثقافيا ومعرفيا من حيث إنها بنيات مميزة ذات صلة بفكر وفلسفة وبطاقة هوية تمييزية وتفاضلية، ولأنها كذلك فإنها تتمايز تعبيريا وأدبيا ورؤيويا بحسب الحاجة والمعايشة والمكابدة، وليس بناء على النقل الحرفي لتجارب الآخرين في سياقات مخصوصة لها ما يبررها اجتماعيا وجماليا، لقد عاش بعض أدبنا متفرجا على الواقع المتأزم، جالسا على قمة جبل الأولمب، كما الآلهة القدامى، غير معني إطلاقا ببيئته، قدر اهتمامه بما يستورده من أشكال ورؤى وموضوعات ذات علاقة فصلية بالمحيط الخارجي الذي له خيارات ومتطلبات لا يمكن العثور عليها في الكتابات والمنظورات الوافدة، أو تلك التي تسوّق للمتلقي لامتصاصها كاملة، حرفيا، دون غربلة واعية لما يصدّر له. تلك خيارات جزء من الكتّاب والشعراء، وشروطهم المفروضة في تعامل القارئ مع منجزهم المستورد إلى قناعاتهم، بصرف النظر عن مستويات القراء وميولهم وخياراتهم الفعلية.هناك مؤلّفون يعيشون في البلد ويبصرون بعيون غربية، وبعقول غربية يفكرون ويكتبون، بانتظار أن يقرأهم أبناء وطنهم. لذلك لا نندهش عندما نلاحظ أن الحراك الجزائري، والعربي عامة، كان مفاجئا للجميع في ظل غياب المجاورات الممكنة بين الكتابة والأحداث والحالات، بينها وبين النفس البشرية، وبينها وبين ما يرغب فيه الناس في سياق تاريخي له بطاقة ثبوتية خاصة به، وليس بغيره من الأمم البعيدة عنه على عدة أصعدة. كيف حصل ذلك عينيا؟ كان استغراق الكتّاب في تأمل الذات وإملاءاتها المفرطة، ثمّ الكتابة عنها وعن هواجسها المستقلة، في أغلب الحالات، شكلا من أشكال تحييد النص وإبعاده عن المتلقي الذي لم ينسجم معه لأنه يرى أنه لا يمثله في شيء، لا من حيث الشكل، ولا من حيث اللغة ومختلف الاستعارات، ولا من جانب الرؤية المهزوزة التي لا تعبر عنه لأنها هجينة، وليست ذات شخصية واضحة المعالم لأنها نقلية أصلا، أي قائمة على حفظ ما أنتجه الغير في ظروف مختلفة عن ظروفه. هكذا ابتعد المتلقي عن قراءة الروايات والأشعار والنصوص المختلفة، بقضها وقضيضها، وعن متابعة ما يكتب محليا لأنه يجد نفسه غريبا، وغير معني بإبداع لا يعبر عن انشغالاته، بقدر ما يعبر عن أمم وتقاليد أخرى لا صلة له بها. ما يبرّر، في جزء من العملية الإبداعية، تدهور المقروئية إلى درجة مخيفة، خاصة في السنين الأخيرة. الأدب، كما الفكر والفلسفة والمسرح واللوحة الزيتية والمنحوتة، مسؤول عن هذا المشهد إلى حد كبير، وليست المؤسسات والسياسات والسياقات التاريخية وحدها هي من أسهمت في تدمير القراءة وتحريف الذائقة. هل ستغير الكتابة من منظوراتها السابقة في ظل هذه المتغيرات الاجتماعية التي أيقظت الإبداع من غفوته واستعلائه على الطبقات الشعبية؟ وعلى المجتمع برمته؟ ربما كان الحراك معلّما مقتدرا، ودرسا عميقا يمكن الاستفادة من خبرته، ومن خبرة الوعي الجديد في طريقة تعامله مع الأحداث، وفي شكل تحيين الأفكار والمشاعر، دون الاحتماء بالكتب المثالية، وبالكتب المهاجرة التي لا تقول شيئا يفيد الوضع. لقد اعتمدت الثورة الحالية على نفسها، في جزء كبير مما قامت به في ظرف وجيز: عشرة أسابيع إلى غاية كتابة هذه الأسطر. أظهرت مختلف المسيرات المنظمة بإحكام أنها لم تتكئ على جهد معرفي يضيء لها الطريق لطرح مطالبها. كانت أغلب الشعارات والمقولات جاهزة سلفا، ذلك أنها عادة ما ترددت في ملاعب كرة القدم، وفي بعض الحارات الشعبية التي أنتجتهاللظرف المخصوص، باستثناء بعض الأناشيد الوطنية والمواد الدستورية التي لعبت دورا ما في ترقية خطاب الحراك ومنحه هوية خاصة، ورغم أن الأناشيد قديمة جدا لأنها تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، فقد كان لها وقع خاص. في حين أننا لا نجد أيّ أثر للأدب الجديد، شعرا ونثرا وموضوعا ورؤى، كأن الشارع يملي على نفسه أشكال تعامله مع الواقع، دون أن يكون بحاجة إلى ما أنجز من قبل. ثمة خصوصية مستقلة في المرجعيات والمساند واللغة التي استعملها المتظاهرون، على اختلاف انتماءاتهم الطبقية والأيديولوجية واللسانية. ما يؤكد ضعف تأثير المعرفة في حياتهم، أو انمحاء دور الكتاب في ترقية الوعي الجماعي الذي احتمى بممكناته التعبيرية الدالة عليه، كما هو، في ظلّ تراجع التنظير إلى أدنى درجة. لقد أصبح طوفان الحراك هو الذي يتبوأ المشهد العام ويملي طرائق عمله، وغدت النخبة تابعة له لأنها كانت تردد شعاراته وأهازيجه التي ابتكرها في مقامات أخرى. أي أن هذه النخبة المشكلة من الحقوقيين والأكاديميين والكتاب والشعراء والمثقفين انتقلت من درجة عليا إلى درجة أدنى بانصهارها فيه ومعاودة خطابه الضاغط، وتلك مفارقة كبيرة وجب الإشارة إليها لفهم الدور الحقيقي لهؤلاء الذين لا يتعاملون سوى مع الكتب والمناصب، دون أي اعتبار للشعب، أو للأغلبية التي كانت بحاجة إلى خطاب آخر ينير سبيلها. الظاهر أن الأمة تريد أدبا آخر غير هذا الأدب. قفلة: ما قيمة هذا الأدب الذي لا يسعى إلى التغيير الفعلي؟ لا يؤثر، لا يفضح اللص، لا يقوّض راحة الأشرار؟ إن أرادت الكتابة أن تكون ذات قيمة فما عليها إلا بالتخلي عن الكعب العالي، عن الكحل وأحمر الشفاه، أن تنزع قفازات العروس وتواجه الوحش بمروءة، ودون خوف منه ومن سلالته. أمّا إن كانت تبحث عن الجوائز والمكاسب فذاك شأنها، وهي حرة. لكن، ليس من حقها إدانة القارئ الذي ينفر منها لأنها لا تعنيه في شيء، وتلك حقيقة ماثلة وجب مواجهتها بموضوعية كبيرة.