لا يختلف اثنان في كون الأستاذ مخلوف عامر قامة نقدية وأكاديمية لا يمكن تجاوزهاعند الحديث عن النقدفي الجزائر، لأنه اسم حاضر بكفاءة عالية. لقد قدم للأدب الجزائري، وللنقد أيضا، خلال عقود من القراءات، ما لم تقدمه عدة مخابر ومؤسسات جامعية تهتم بشأن الخطاب. تابع المنجزين السردي والشعري عن قرب (الشعر في المقام الثاني)، قديمه وحديثه، ولم يغفل التجارب الجديدة التي كتب عنها بموضوعية استثنائية، بمنأى عن تأثير العلاقات والمراكز وجماعات الضغط التي طالما وجهت بعض النقد الجزائري، من السبعينيات إلى اليوم، ما أعلى من شأن بعضهم، وقلل من شأن كتّاب متمكنين من حرفة السرد، لكنهم كانوا أقلّ حظا في النشروالانتشار. وهو، إضافة إلى اهتماماته النقدية الحصيفة، متابع للشأن الفكري العربي والإسلامي، بالتأصيل والتفسير والموازنة والنقد العارف الذي يؤسس على مرجعيات دقيقة، ومؤكدة معرفيا. يقوم بذلك بكثير من النسبية اللافتة، بمراجعة مستمرة، وبتواضع جليل يبلغ درجة الامحاء أمام الآخرين، انمحاء العالم والزاهد والصوفي، كما يمكن أن نقرأ ذلك في تصديره لكتابه «ألوان من المحكي»: «تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع ولا تك كالدخان يعلو بنفسه على طبقات الجوّ وهو وضيع» ولنا، إن رغبنا في معرفة قدراته التحليلية ذات العلاقة بالفكر التراثي، مراجعة كتابه الموسوم: الدولة الإسلامية، واقع تاريخي أم نموذج وهمي؟ المنشور في مصر. ثمة في هذا الجهد الكبير طرح عميق لقضايا معقدة تستدعي إحاطة بالمنظورات الفكرية، أسسها ومقاصدها الفعلية في سياقات مركبة، وسديمية في أغلبها. هذا الكتاب يكشف عن فهم عميق لمسائل ومضمرات ظلت يقينية، أو من الممنوعات الكبرى، مع أنها قابلة للمساءلات العارفة، وهو ما قام به الباحث بنوع من النباهة، وبمراجعات وأسئلة مبنية على مؤهلات ثقافية مؤكدة يصعب عدم الانتباه إليها ككفاءة عالية، عرضاوتحليلا واستنتاجا، ودون يقين. الرواية الجزائرية في مطلع الألفية الثالثة: يبدو هذا الكتاب الجديد (موفم للنشر، الجزائر 2017)، تتمة لقراءاته النقدية السابقة التي عرفها القارئ، وللتوجه النقدي ذاته، مع بعض العدول النسبي الذي قلل من قيمة الأيديولوجيات التي كانت مهيمنة من قبل، أي مقارنة بانطلاقاته الأولى في مطلع الثمانينيات، وهو أمر منطقي إن نحن آمنا بالتراجعات كقيمة، وكمسار ملتو لا يمكن تفاديهإن نحن رغبنا في تجاوز أنفسنا، بحثا عن ممكنات أخرى. ذلك أن هذه التراجعات الجزئية قد تكون إضافة قيمة، أو تصويبا لما قيل، ولو نسبيا، وحتمية لمن يؤمن بالمتغيرات الرؤيوية الممكنة، بعيدا عن المواقف اليقينية المدمرة التي ميزت منظوراتنا النقدية والفكرية. الشيء الذي صرّح به الباحث مرارا. نتذكر مثلا تراجعه عن القراءة الأيديولوجية لأشعار مصطفى محمد الغماري، وهو أمر نادر الحدوث في كتاباتنا النقدية برمتها، إذ عادة ما نتمادى في تكريس الخطإ، ولو كان جليا. يضمّ هذا المؤلف مجموعة كبيرة من المقاربات لعدد معتبر من النصوص الجزائرية والكتابالمتباينين سرديا وأيديولوجيا ومرجعيا، ومن حقب متباعدة: نذكر من هذه المؤلفات التي تناولها، على سبيل التمثيل: رواية نهاوند لمرزاق بقطاش، الحركي لمحمد بن جبار، نادي الصنوبر لربيعة جلطي، كاماراد، للصدّيق حاج أحمد، في الجبة لا أحد لزهرة ديك، الغيث لمحمد ساري، وطن من زجاج لياسمينة صالح، الخابية لجميلة طلباوي، الروابي الجميلة للأزهر عطية، سييرا دي مويرتي لعبد الوهاب عيساوي، حضرة الجنرال لكمال قرور، تاء الحجل لفضيلة الفاروق، يوم رائع للموت لسمير قسيمي، القاهرة الصغيرة لعمارة لخوص، سأقذف نفسي أمامك لديهيا لويز، شبح الكاليدوني لمحمد مفلاح، عام الحبل لمصطفى نطور، 2084 لواسيني الأعرج، مولى الحيرة لإسماعيل يبرير، وغيرها من الروايات، على تعددها ومستوياتها. ويختم الكتاب بحوار أجراه معه السعيد بوطاجين في ملحق الأثر لجريدة الجزائر نيوز، وهو حوار يكشف عن موقفه من الحداثة والمسائل اللغوية والجمالية، ومن علاقة الأدب بالنقد في ظل التجاذبات الحالية. يفعل ذلك بتركيز، وبحياد الأكاديمي الذي لا ينبهر بالمصطلحات والمفاهيم المتواترة. سيلاحظ المتلقي، دون أيّ عناء يذكر، أنّ الكتاب لم يؤسس على انتقاء للمؤلفين: هناك أسماء لكتّاب وكاتبات من مختلف الأعمار والمشارب والتوجهات الفنية والأيديولوجية، وهو ما ظلّ يقوم به طوال تجربته النقدية، أي من مطلع الثمانينيات الذي شهد ظهور كتاب: تطلعات إلى الغد، مقالات في الثقافة والأدب، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1983، ثمّ تجارب قصيرة وقضايا كبيرة: المؤسسة الوطنية للكتاب،1984، مرورا بكتاب: تدريس العربية وآدابها، 1997، مظاهر التجديد في القصة القصيرة في الجزائر، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1998، الرواية والتحولات في الجزائر، دمشق 2000، وصولا إلى متابعات في الثقافة والأدب، 2002، توظيف التراث في الرواية الجزائرية، 2005، مراجعات في الأدب الجزائري، 2009، الواقع والمشهد الأدبي، 2011، قراءة جديدة في نصوص قديمة، 2012، الكتابة لحظة حياة، 2012، الدولة الإسلامية، واقع تاريخي أم نموذج وهمي، مصر 2013. يشير الكاتب في المقدمة إلى معاينات غاية في الأهمية بالنظر، وهي ملخص، ومسح عارف لأهم الحقائق والتحولات التي عرفها المشهد الأدبي، من السبعينيات إلى غاية اليوم، ومنها: أ قيمة فترة السبعينيات إبداعيا ونقديا. ب هيمنة موجة النهج الاشتراكي. ج أفول نجم الأديب الملتزم في مطلع الثمانينيات. د التخلي عن المضمون لفائدة الأشكال. ه انحسار موضوع ثورة التحرير. و انكفاء عدة أعمال على الذات في فترة التسعينيات: اتسمت نصوص هذه الفترة بالتقريرية والتسطيح. ز انطلاق الأوائل من القصة القصيرة، وشروع اللاحقين في كتابة الرواية، دون المرور على تجارب أخرى، ومن هنا ظهور بعض النصوص المتواضعة التي لم تتمثل التقنيات الروائية. ح تخلف النقد عن مواكبة الإبداع «لأن سائر المهتمين بالأدب صاروا يرون أنفسهم مبدعين، وروائيين تحديدا.» ط استمرار بعض الأسماء القليلة في مواكبة المنجز، بعيدا عن الرسائل الجامعية التي لا تتعدى حدود الشهادة. يشير المؤلف في مقدمة الكتاب، كتوضيح لطبيعة المقاربات التي اتكأ عليها في قراءة النصوص التي تناولها،إلى أنه لم يتبع منهجا نقديا بعينه: «إني لا أعدّ هذه الانطباعات «نقدا بالنظر إلى ماتمليه المدارس النقدية المعاصرة، بقدر ما هي دعوة للتمتع بما جادت به أقلام معروفة وأخرى واعدة، ولا شك للذوق أثره فيما يشوّقنا ويعجبنا، كما في ما لا يرضينا وينفّرنا.» والواقع أنّ مثل هذه الدراسات التوفيقية، إلى حدّ ما، المفتوحة على الذوق والممكنات، ضرورية جداللإحاطة بالمنجز الأدبي من حيث إنها تكشف، من زاوية أخرى، عن طبيعتهومكوّناته، عن إيجابياته وسلبياته (حديث الأربعاء لطه حسين عينة)، ذلك لأنّ المناهج النقدية الجديدة، رغم قيمتها الكبرى قدراتها التفكيكيةودقتها في ضبط الأشكال الأدبية ودلالاتها المختلفة، لم تساهم كثيرا في تقييم الأدب وتوجيهه تأسيسا على الموقف. لقد غلب عليها الطابع الوصفي الوافد من المنجز الغربي، ولم تستطع استثماره بشكل أعمق في التعامل مع النصوص المتفاوتة الجودة، بعيدا عن التطبيقات الآلية للنظريات المستوردة من الغرب. نتذكر جيدا كتاب، في هذا المقام، كتاب الأدب في خطر لتزفيتان تودوروف، وهو يشير إلى إشكالية المناهج اللسانية الجديدة التي وصلت إلى طريق مسدود لاعتبارات كثيرة. أجد إذن، ودون أيّ استثمار للطريقة المنتقاة من الناقد، أنّ مقاربات مخلوف عامر، الانطباعية على حدّ قوله في عدة مناسبات، ضرورية جدا لأنهاتنطلق من داخل النصوص لتهتم ببناها وطرائقها، وهي تؤسس على ثنائية التقييم والتقويم اللذين غابا عن المدارس النقدية الجديدة التي اكتفت بإبراز تمفصلات المعنى. لقد فعلت ذلك على حساب القضايا الفنية واللغوية والجمالية المغيبة بسبب طبيعة المنهج وصرامة ضوابطه. ما أدّى، مع الوقت، إلى نوع من التكرار النمطي لمنظومة من المصطلحات والمفاهيم المستوردة، وإلى ابتعاد الكتاب أنفسهم عن هذه الدراسات التي بدت لهم عارضة، وواصفة، وليست مؤهلة للتمييز بين النصوص المختلفة: لقد أصبح أغلب الكتّاب غير مبالين بالمقاربات الجديدة بفعل تعقيداتها وعدم قدرتها على المساهمة في ترقية الإبداع. ومن ثم تغدو هذه القراءات التي جاء بها مخلوف عامر، نوعا من التنويع المنهجي، وطريقة مختلفة لقراءة النصوص انطلاقا من قيمتها، وليس من تمفصلات المعنى، كعرض حيادي. من المهمّ، بالنسبة للقراء والجامعيين، الاطلاع على كتب مخلوف عامر لأنها ضرورية، ومختلفة منهجيا، وذات منطلقات واضحة المعالم. إضافة إلى ذلك فإنّ هذا الناقد، بعيدا عن المؤلفات والنظريات، يمتلك ثقافة تراثية عالية، وهو إنسان كبير. ربما ألغت إنسانيته الراقية كثيرا من مؤلفاتنا وفضحت استعلاءنا ككتّاب وأكاديميين بحاجة إلى التواضع أمام الخلق العظيم، وأمام المعرفة السردية البشرية التي تستدعي النظر إلى الكون بنوع من التواضع لأنه أكبر من جملنا وألفاظنا، وأكبر من طاقاتنا، ومنّا مجتمعين.