لم تكن تدري أنها ستعايش جيلين آخرين بعد جيلها، الذي أكله الجوع والتشرد والرصاص والحرق الجماعي. هي التي في طفولتها وشبابها استهوتها المدن والأمكنة والأسفار مع أبيها لاكتشاف الناس ولمس العوالم التي كانت تجهلها. عن قرب رأت من عذبوا ومن قتلوا ومن شردوا ومن أُخذوا إلى أمكنة مجهولة دون رجعة؛ أولائك الذين إلى حد الآن لم يظهر لهم أي أثر ولا زال من تبقى من عائلاتهم، يبحث عن القبور المنسية والحفر المجهولة التي دفنوا فيها جماعات جماعات. كثيرون وكثيرات، أطفالا أخذوا عنوة ما زال مصيرهم مجهولا إلى حد الآن؛ أطفال في سنها. ليس هذا فقط؛ هناك أمهات وجدات وعمات وخالات وبنات ونساء الجيران، لا أثر لهن ولا خبر لا في سجون المستعمر المتعددة، ولا في الحفر الجماعية المكتشفة. لا زالت ذاكرتها حية ومتقدة مثل شرارة النار المباركة تحيي الذاكرة المنسية. لأنها الطفلة الوحيدة وسط تسعة ذكور ؛ مع من اختطف واغتصب من فتيات في زهرة العمر؛ كانت والدتها تلبسها ألبسة الذكور، كما أن والدها كان يأخذها أين ما حل وارتحل لحمايتها. كونه جُند إجباريا وشارك في الحربين العالميتين ورجع سالما ولَم يُعرف عنه أي تصرف يجعله محل مراقبة ومتابعة، يضع على رأسه الشاشية سطنبولي المزينة بالنجمة والهلال التي تفنن في صنعها وخياطتها بنفسه، يعلق نياشينه الكثيرة على صدره ويتحرك بكل حرية. كان خياطا وفلاحا وموالا؛ يتحجج بالتجارة والسفر لأخذ التساريح من المسؤول العسكري للمنطقة؛ الشيء الذي مكنه من تسهيل الطريق للمجاهدين، وتزويدهم بالمال والمؤونة والألبسة والأدوية وحتى الأسلحة، مع كل ما يحتاجونه لتحركهم أو إقامتهم المؤقتة والعابرة. كان يهرب المتابعين من طرف السلطة العسكرية في الجهة الغربية إلى أحفير وأنڤاد وسيدي يحيى ومدينة وجدة ولازاري وإلى كل القرى والمدن المغربية القريبة من الحدود الغربية؛ ومنها يلتحقون بالجبهة. الشيء الذي كانت تجهله الطفلة المرافقة من أوله إلى آخره أو تتظاهر بجاهله. استغل سطوة تأثيره على الناس وحبهم واحترامهم وتقديرهم له لاستقطاب المسبلين وجامعي المال والدواء من نساء ورجال ومنهم حتى الأطفال. أجمل الأوقات وأمتعها بالنسبة لها تلك التي كانت تقضيها مع الأطفال والنساء الرحل في خيامهم الموزعة على مختلف المناطق، بحثا عن الماء والعشب وقليل من الحياة التي حرموا منها في ديارهم الأصلية وأرضهم المعطاء التي استولى عليها الكولون. في تلك المناطق التي تعود الأب المرور عليها، تكونت لذيه علاقات حميمة ومتينة منها ما هو سري وما هو علني مع تلك العائلات التي كان يترك عندها ابنته ليوم أو أكثر؛ حتى ينتهي من مهمته الثورية ويعود لأخذ ابنته ومواصلة الطريق إلى أهله، أين يجد في كل مرة سجينا أو شهيدا أو مغتصبة؛ الشيء الذي كان يزيد من إصراره لمواصلة عمله النضالي. وسطهم حفظت الكثير الحكايات الشعبية والشعر الملحون، وكل ما يُغنى للطبيعة والمواسم والأحصنة والجمال والمولود الجديد والعرسان. تعرفت على طقوس كانت تجهلها في قريتها والمدينة المجاورة، التي كانت ترتادها بين فترة وأخرى بلباسها الذكوري مع جدتها القابلة الشعبية والمجاهدة. تعلمت فنيات الوشم ودلالاته وجمالياتها، تعلمت غزل الصوف ونسيجها، لتخرج منها برانس وجلابيات وزرابي وأفرشة وملاحف بألوان سحرية ورسومات تبهر المتمعن فيها؛ لكل لون أسراره ولكل رمز بعده الثقافي الذي ستكتشفه في ما بعد مع تعلمها ودراستها؛ حتى وإن جاءت مرحلة تعلمها متأخرة جدا، لكن بذكائها ورغبتها الملحة في التعلم التهمت المعرفة التهاما كما التهمت السنوات. لا زالت العشرات من أحزمة الصوف الملونة مخبأة في صندوق زفافها العتيق ؛ أهدت منها لكل عرائس جيلنا تبركا بذاكرة الجدات. هي الآن بعكازتها الأسطورية التي واجهت غطرسة العسكر ، وسط الجماهير مثل الولية الصالحة محاطة ببنات وأبناء الأجيال الجديدة تنادي مرة أخرى وتصدح بكل ما تملك من قوة»» ما زلنا ما زلنا ما زلنا ثُوارْ ما نقبلوشْ العار»»»