لقد تحدّث في هذا الموضوع أغلب الشعراء والدارسين في كل العصور والأمصار وأنهكوه تحليلا وتفصيلا، ومن الصّعب بل من السخرية الآن الخوض فيه من جديد !، لكن رغم هذا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الحديث عن وظيفة الشعر مرة أخرى، ..خصوصا أنني حضرت أمسية شعرية وقد طرح فيها نفس السؤال، وكانت التدخلات والآراء موزعة بين اتجاه الالتزام في الشعر والفن بشكل عام ، والاتجاه المقابل القائل بالفن للفن.. والمسألة كما أراها وباختصار شديد، لا تحتاج إلى تعصب إيديولوجي أو مذهبي أو فكري ، وإنما هي بحاجة إلى نظرة موضوعية واقعية ،..المسألة متعلقة بالتطور الطبيعي، لكلّ ما هو مواكب للحضارات الإنسانية، وما حدث للشّعر والفن العربي وجميع العلوم والمذاهب الفكرية والفلسفية في جميع الحضارات الأخرى، أين كانت العلوم والعقائد الفكرية نسقية شاملة تشمل كل العلوم ثم بدأت في التملص من بعضها البعض وبدأت تتفكك وتتفرع ، وظهر بما يعرف بالتخصص ثم بتخصص التخصص ، فمثلا كان الحكيم أو المفكر قديما فيلسوفا وعالما رياضيا وطبيبا وشاعرا و,,و,,و,, ثم بدأ في التفكك ، فانسلخ الطبيب عن العالم والفيلسوف والشاعر... كذلك الأمر بالنسبة للشعر الذي كان ديوان العرب ولسان حالهم في جميع المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، ومع تقدم الزمن بدأ السياسيون يهتمون بالسياسة والاجتماعيون بالاجتماعيات والإعلاميون بأخبارهم وغيرها.. وكلما تطور العلم زاد الشّعر تخففا من اهتماماته ووظائفه السابقة، حتى لم يبقى منه إلاه أو لم يبقى له غير ذاته ،! وهنا عادت الأسئلة القديمة تطرح من جديد، مثل : ما الشعر!؟، ما وظيفته!؟ ، إلى درجة أنه بات يتحدّث عمّا يسمى بأزمة الشعر !؟، والحقيقة أنه لا توجد أزمة، وإنما هناك عود على بدء، فيما يتعلق بمسألة المواكبة الفكرية والتي تقف دوما أمام إشكالية الثابت والمتحول، والجوهر والعارض، وما إلى ذلك من جدليات فكرية مفضية إلى صدامات معرفية وثقافية لا تنتهي، فعقولنا الاجتماعية التي تميل إلى الاستقرار بحكم غريزتها تحاول دوما أن تُثبّتَ الأمور وتجعل منها عرفا ثابتا فمقدسا ، لا يقبل المساس والتغيير وإن كان بطبعه عارض لا جوهر ومتغير لا ثابت، والشعر إحدى هذه الأوجه التي تثبتت وتقدست في تصوراتنا، وبات كل تغير يطرأ عليها أو يمسها خطر داهم وجهل جاهل لا بد من مقاومته ومحاربته. وقد يحتدم الصراع كلما ابتعد الطرفان المتخاصمان أو المجادلان عن النظرة العلمية والموضوعية للمسألة. فليس بالضرورة أن يكون العيب في المتمسك بالثابت وحده، هو المخطئ بل قد يكون المتحول التغير أكثر منه خطأ وأشد منه تجنبا للصواب. لاسيما وإن كان هذا التغيير مقلدا لا أصيلا، ومحاكيا لا إبداع فيه ولا تنظير، فالتقليد لا يقتصر على القديم فحسب بل يشمل المقلد لغيره دون علم أو تأصيل. لأن التقليد بطبعه ساكن والسكون موت وشلل للفكر والعقل. ولذا فالتغيير حتى يكون موضوعيا وناجعا لابد أن يكون من الداخل، أي أن يكون أصيلا ومتأصلا ، ويتم بشكل طبيعي يتماشى وفطرة التطور ومسايرة الزمان والمكان. لقد تعودنا أن ننظر للشعر على أنه ذلك الكلام المزون المقفى ، وصار ما صار من معارك وخصوم بين المجددين وأنصار القديم، ثم هدأت الأوضاع وبات الغريب متداولا ومعروفا أمام تراجع القديم والأصيل. ثم تخفف الشعر مرة أخرى لا من شكله فحسب بل تخلى عن بعض وظائفه الأخرى ولم يعد يناصر القضايا والوطنية بعد أن تخلى عن الأغراض القديمة المعروفة وألحق بها الأغراض الاجتماعية والتعليمية، فصار ما صار .. واليوم ها هو الشعر يقف أمام مرآة نفسه عاريا من كل وظائفه السابقة وبشكل جديد غير مسبوق، بات نصا مجهول أمام حقيقته .. وهنا معضلة الشعر الحديث ومشكلة الشعراء المحدثون .. إنهم يقفون الآن أمام الشعر مجردا من كل خارج عنه ومتحللا من كل داخلا فيه. وعادت الإشكالية القديمة الجديدة للظهور مجددا بصيغ مختلفة ومغايرة، لتطرح علينا السؤال نفسه .. ما الشعر! ؟ أو بالأحرى ما جوهر الشعر! ؟ لقد ظنّ البعض أن الأمر أصبح سهلا أو أنهم فهموا الأمر بسذاجة فراحوا يقلدون أصوات الحداثة عند الآخر، وهم بذلك يبتعدون كل البعد عن الحقيقة لأنهم استخفوا بالأمر وظنوا أن الغموض الذي أحدثه هذا الفراغ هو الشعر ! ولم يعلموا أنه مجرد صدى للفراغ الذي أحدثه هذا التجرد والتحلل من الوظائف والأشكال السابقة القديمة، وكما يقول أحد الفلاسفة القدامى ،الشجرة ليست جذور وساق وأغصان وأوراق، بل تلك أطرافها ومكوناتها التي تدركها حواسنا، بنما الشجرة في جوهرها هي ما وراء هذه المكونات.. حقيقة الشجرة في معناها العميق، في روحها ، فما روح الشعر وما معناه العميق ! ؟، فجوهر الشعر هو منذ النشأة الأولى لم يتغير، وإنما كان مواربا وراء تلك الوظائف التي ترسبت عليه فحجبت عنا جوهره . الشعر هو الشعر منذ الأزل إلى اليوم ، وحقيقته الجوهرية مخبأة في صدور الشعراء وفي مخيلاتهم .. الشعراء الحقيقيون هم وحدهم يدركون ذلك، فهل الشعر شعور وإحساس وتصور لا مفهوم له ! ؟ أو هو لعبة كما يقول الناقد (خلدون الشمعة) بين المبدع والمتلقي! ؟ ولو أن مسألة التلقي أيضا اشكالاتها لا تقل خطورة وتشابكا عن إبداع اللاقط ، فالتلقي إبداع ومستويات ، وهناك المتلقي العادي والمتلقي المبدع والمتلقي المحتمل .. كما أن للتلق شروط فطرية ومكتسبة تماما مثل شروط المبدع أو الفنان. والخوض في هذا الأمر يخرج بنا عن موضوعنا وطرحنا وسؤالنا الجوهري .. ما الشعر! ؟ ما وظيفته! ؟ . أعتقد أن الأمر في هذه المسألة مرتبط بالبعدين المتجاورين المتلازمين الزمان والمكان ، وإن لكل زمان تعريفه ووظائفه، ومن الطبيعي أن يكون الشعر ديوانا للعرب في عصره، وأن يكون صوفيا في عصره، ونضاليا ثوريا في عصره، وفلسفيا متسائلا في عصره، لكن في كل تلك العصور كان يرافقه شيء واحد جوهري لا يفارقه مع كل تلك المتغيرات ، ألا وهو الجمال ، فهل نستطيع بذلك أن نقول بأن الشعر صورة من صور الجمال ،، لكن ما الجمال! ؟ .