تشكل إشكالية المعنى أبرز إشكالية في الوجود الأنطولوجي للإنسان ؛ المعنى كبعد كينوني ، وبعد روحي ومعرفي عقلي، وقيمي ، يرتبط رحميا بجدوى وجود الإنسان على الأرض. فكل حضور للذات لا يتجسد إلا عبر معنى معين، ولا تعني إلا معناها، وما المعنى إلا طريقة وجود يبقى يتشكل باستمرار. إن المعنى والبحث عنه هو الجدلية التي أسست لفعل المعرفة كنسق وجود بشري يختلف عن غيره، المعنى الذي تتوالى المعارف والنصوص لتؤكد له أوجها متعددة، ولكنه يبقى الهوية غير المكتملة والرجاء بعيد المنال. المعنى الذي لم يبق حياديا إزاء الطبيعة ،وعمل على إعادة التكوين المستمرة للجوهر الإنساني ببالعودة الدائمة به إلى ينابيعه البكر ومنابته الأولى ، حتى ليشكل في الشعر حنينا دائما للانهائي ، وبرغبة الالتحام به، وهو نفسه ما خلف حالات التشظي والتفكك والقلق والاضطراب الذي تعاني منه الذوات الشاعرة في تقلبها بين المفاهيم بحثا عنه، عن المعنى، خصوصا في هذا الوضع البشري الذي استحالت فيه البشرية إلى ضحية في يد مصفوفة العولمة عبر الإعلاميات والبرمجيات والصناعة التي أحالت الفن كغيره من القيم إلى سلعة استهلاكية ووسيلة سطحية للاستمتاع والتسلية ، في عصر يشهد أوج عبادة السلع بصنميتها الفيتشية التي سيطرت على علاقات البشر، و كرست الآلية والاستهلاك ورواج المنفعة المادية الخالية من البصمة الإنسانية وروح القيمة والمعنى. إنها حالة من الاغتراب والتشيؤ في مجتمع الصناعة والآلة و بيروقراطية الإدارة التي فرضت أسلوبا منمطا من التفكير بالعقل الأداتي والعقلانية التقنية حسب مدرسة فرانكفورت. وتشكل الذات الشاعرة ذات فاعلة كوعي، وعي يطلب التحرر ويمارس وجوده في البحث عن المعنى داخل الأشياء والطبيعة وروح العالم، الذات الحية الحيوية في انطلاقها الدؤوب مغامرة في ارتحال لا يتوقف بحثا عن المعنى، المعنى العابر للتاريخ والإنسان والقيم، والذي يبقى في حالة تشكل دائم ، بعيدا عن القولبة والانغلاق في مفاهيم نهائية وقوالب جاهزة، في كل العصور . فالشعر مغامرة البحث عن المعنى ، عن الذات ، وهو بهذا نوع من المقاومة ، مقاومة الاستلاب ؛ استلاب العالم الخارجي للذات ، وتحريرها الدائم من مختلف أشكال الخطابات الجاهزة والمصفوفات. وازداد دور الشعر خطورة ، وازدادت الحاجة إليه بفعل ما ما يتعرض له الجوهر الإنساني ذاته من إكراهات وتحولات، تسعى لتشييئه في آلية ورقمية تبيد إنسانيته ودماءه البشرية شيئا فشيئا، الشعر الذي ينطلق من منطلق المسؤولية الوجودية التي تحتفي بالإنساني المرتد إلى أصله البدئي النقي الجمالي الأخلاقي الروحي ، ومحاولة استرجاعه في واقع مرتهن للكثير من مظاهر الاستلاب ، التي تسببت في حالات الفصام الوجداني والفكري والوجودي، والتمزقات النفسية والتشوهات الذهنية والسلوكية الحادة.