مع نهاية شهر أوت تبدأ ما تشبه الحمّى الخفيفة التي تصيب الجسد دون رجّات عنيفة تستدعي المسكّنات، ذلك هو «الدّخول الأدبي» الذي ربّما يتردّد مفهومه إعلاميا أكثر من أي وجود له على أرض الواقع، فمنذ سنوات كنت قد قرأت موضوعا في المجال يطرح سؤالا مهمّا وهو هل خرجنا أدبيا لكي نتكلم عن الدّخول؟.. فعلا الدّخول يكون حدثا ثقافيا من مخرجات التجمّع الثّقافي لسنة بأكملها يتوّج بما نسمّيه أو يسمّيه أصحابه، باعتبارنا مجرّد متبنّين «الدخول الأدبي»، في الحقيقة أنّه ليس هناك مؤسّسة ثقافية حقيقية تشرف على تحديد مفهوم «الدّخول الأدبي» ومن ثمّة تقوم على تحقيقه واقعا ضمن استراتيجيه واضحة المعالم جليّة العناصر قابلة للسّريان في المجتمع الثّقافي باعتباره واجهة المجتمع السّوسيولوجي. ما يحدث واقعا هو مبادرات مهرجانية واجهاتية تقوم وفق مبادرات مشّتتة لا تعبّر عن وحدة الحدث الثّقافي الذي وُجد لأجله مفهوم «الدّخول الأدبي»، إذ في تعريفه حسب ويكيبيديا: «هو تعبير يعني في فرنسا وبلجيكا الفرنكفونية فترة تجارية يتركّز فيها ظهور أكبر عدد من عناوين الكتب والذي ينطلق من أواخر شهر أوت ويستمر حتى مستهل نوفمبر»، فأساس التّظاهرة هو هذا المدخل المعرفي الذي يحدّد المفهوم والطبيعة والزّمن، وكل ما يترتّب على ذلك فهو تحصيل حاصل، ولهذا نرى مدى قوّته واستمراره مفهوما وفعالية ينتظرها النّاس بفارغ الصّبر لأنّها صارت من ضمن اهتماماتهم الحيوية التي تترجم حالة يعيشها المجتمع وبالضّرورة تهمّ عناصره البشرية، ومن يشذ عنها فهو بطبيعة الحال يعاني خلالا يجعله خارج التّعريف الإطار لمجتمع «المعرفة والإعلام» بتعبير ألفين توفلر. فهل بعد هذا يعتبر «المعرض الدّولي للكتاب» هو ما نقصد به الدّخول الأدبي؟ إذا كان هذا هو الحال، فربّما نعاني قصورا في فهم الحالة الأدبية كحمّى يجب أن تسري في جُماع أوصال المجتمع، كي يستطيع الملاحظ أن يدرك الوضع الثّقافي في شموليته، باعتبار التّرابط بين فعاليات ثقافية متعدّدة تتعلّق بإنتاج الكتاب، إشهاره، تسويقه وعرضه، وهو ما يعبٍّر عن الفعاليات المصاحبة لمعارض الكتاب التي تعتبر في عمقها معارضا ثقافية. وبهذا المعنى لا يمكن اعتبار تظاهرة «المعرض الدّولي للكتاب» تعبيرا عن جوهر عملية الدّخول الأدبي، فرغم أهمّية المعرض إلا أنّه غير كاف للدّلالة على حدث عميق أصبح أهم ما يميّز «فرنسا»، وجعل منها مجالا عالميا في قاموس ثقافة الكتاب ونشره والعناية بعرضه وما يحيطه فكريا وإبداعيا ونقديا. حينما نتكلم عن الدّخول الأدبي في موطنه، فنحن نعني حالة ثقافية اقتصادية تقدّم على الأقل 500 عنوان جديد، وضمنيا فهي تحيل إلى دور النّشر، وتحصي عناوين الكتّاب الجدد، وتقدّم الترجمات، وهي لا تغفل أو تتغافل النّقائص الماضية وما يستفاد منها كتجربة، وكل هذا يكون مشمولا بالحالة المجتمعية في عمومها، بمعنى أنّ «الدّخول الأدبي» ينتقل من طبيعته النصية التي تشكّل كيانه إلى هويّة تتعلّق بحركة تقود المجتمع إلى النص، وهذا هو الأساس الذي تتفرّع منه كافّة المظاهر التي تميّز المجتمع الأدبي باعتباره الرّافعة التي تعي المعنى العميق في ثقل الثقافة والأدب في مقدّمتها. إنّ وعي «الدّخول الأدبي» كظاهرة يجعل من الوعي على العموم مِجَسّا لكيفية سريان تيّار هذه الظّاهرة في شرايين المجتمع، وبالتّالي فنحن نتكلم عن استراتيجية شاملة لقياس درجة الوعي الأدبي في مجتمع معيّن، وطبقا لدرجة الوعي يكون نجاح الظّاهرة أو إخفاقها، وطبقا لهذا الإحساس الأدبي والتّوعوي بمفهوم وفعالية الدّخول الأدبي أن نقيس مدى تجاوب «المجتمع الثّقافي» استعدادا لتقمّص روح الظّاهرة، وأقصد بالمجتمع الثّقافي هو المكتبات العمومية والخاصّة، وكيف تتحوّل من مجرّد مكان لبيع الكتب أو عرضها إلى فضاء لتداول الثّقافة و«مهنة القراءة» بتعبير بيرنار بيفو، كيف تعبّر هذه المكتبات عن المعنى الكامن في «المقهى الثّقافي». كيف نستطيع أن نقنع «المقهى» الاستهلاكي أن يخصّص فضاء أسبوعيا للقاء يجمع عصبة تتّفق فيما بينها ثقافيا وأدبيا كنواة لتشكيل البؤر الثّقافية المؤسٍّسة والمبشّرة بدخول أدبي يرتكز على تقليد مستمر وجذر منهجي ومعرفي. كيف تصبح المؤسّسة الثّقافية العمومية مصدرا للثّقافة الجماهيرية بالمعنى الثّقافي وليس التّعبوي. كيف يصبح المعرض تقليدا ومفهوما وظاهرة تتجلى في الوعي السّلوكي المنوط به عملية التحوّل من مجرّد مجتمع «فرقعة» إلى مجتمع «ظاهرة». كيف يمكن أن نفعّل ميكانيزمات الإعلام ليجمع بين الدّعاية المؤسَّسة على موضوعية المُنتَج والمهمّة الإعلامية التي ركازها الثّقافة. ليس «الدّخول الأدبي» كلمة يلوكها الإعلام ليسدّ نقص المادّة الإعلامية أو ليساير العالم الآخر الذي يعيش الظّاهرة حقيقة، العكس من ذلك هو «تجربة» يطلقها الوسط الأدبي وتحقّقها السّياسة الأدبية للدّولة، ويمارسها المجتمع بعد ذلك عن وعي وقناعة، ولا يمكن أن يحدث هذا دون الدّعم المالي أو الميزانية المتعلقة بقطاع الثّقافة التي يجب أن تكون في مستوى فعالية بحجم فعل يرسم الوعي ويبحث في الآليات التي تدفع المجتمع إلى الأفق النّبيل، نبلا يعكس «بلاغة الثّقافة» بعيدا عن «بلاغة التّنميق». إنّ بلاغة الفعل الثّقافي هي الحالة التي يبلغ فيها الوعي بالأدبي/الثّقافي مستوى يجعل تظاهرة مثل «الدّخول الأدبي» مساحة للأدباء وتصريحاتهم العفوية، التي تطلق لسانهم الأدبي وجوارحهم الثّقافية حتى تكون على سجيّتها، تشارك المجتمع هواجسها وأحلامها البسيطة والمعقّدة وأسرارها التي تضطر أحيانا إلى إخفائها وتجد «الدّخول الاجتماعي» مناسبة ملائمة كي تقبس الملكة التّعبيرية الأدبية من بساطة اللسان المجتمعي فيقترب الأدب من المجتمع، وهذه من أهم ما يمكن إفادته من الدّخول الأدبي. لكن يبقى دوما الهاجس الاجتماعي المتعلّق بانخفاض القدرة الشّرائية للمواطن، وانصراف اهتماماته إلى ما يسدّ الرّمق الذي يعاني أحيانا الندرة على مستوى السّوق، إضافة إلى مشاكل السّكن والبطالة، وجميعها تثقل كاهل المواطن وتأخذه بعيدا عن تكثيف حالة «الدّخول الاجتماعي»، أو ما هو ثقافي، أو ما يشكّل الرّوح المتسامية بالجسد إلى مصاف العقل المفكر والمنتج للمبادرة، قد يكون هذا عائقا، لكنّه ليس العائق الذي تستحيل معه الإطلالة أو مصاحبة ما هو ثقافي، برغم كل النّقائص والسّلبيات والمشاكل التي تعيق مسار الثّقافة والأدب في معانيهما المجتمعية، إلا أنّ الإحساس الفطري بالجمال هو ما يمكن أن يشكل الدّافع إلى، فقط، القيام بزيارة خفيفة إلى المعرض، ويجب كمجتمعات تعاني التخلف التعلق بأضعف السلوكات الثّقافية للبناء عليها، فالتراكم هو مجد البناءات المتكاملة.