دخلت في مثل هذا اليوم، منذ نصف قرن من الزمن، النتائج والبنود التي تمخضت عن إتفاقيات »إيفيان« حيّز التنفيذ والتجسيد على أرض الواقع فوضع السلاح وتم توقيف النار عبر كامل التراب الوطني، وكانت بذلك نهاية ثورة دامت ثماني سنوات، في مثل هذا اليوم سطعت شمس ربيع الإنتصار، معلنة عن إنكسار المستعمر وإنتهاء ثورة مدثرة إندلعت ذات خريف 1954، فكانت نهاية قاسية لجنون عظمة فرنسا، التي لم تصمد أمام أصوات كانت دوما تنادي بالتعقل والحكمة والحنكة وتطالب جهرا بإسترجاع حريتها المسلوبة ظلما وعدوانا، وإستقلالها المشروع وغير المشروط، وتدافع دون هوادة عن قضيتها العادلة، فصمود أبناء شعبنا أخلط أوراق الإستعمار وأفشل كل خططه المستقيمة والملتوية، ومختلف أساليبه غير الإنسانية من حصار وتعذيب وتقتيل وتشريد، التي مارسها على الأبرياء رجالا ونساء وحتى طفلا، للقضاء على ثورة مدثرة، آمنت بالإنتصار منذ الإندفاع، فلم تجد فرنسا الظالمة خيارا آخر لها للخروج من نكستها إلا الرّضوخ لقادة الثورة والجلوس على طاولة التفاوض، بعد أن ضاقت بها السبل، وفشل الحل العسكري الذي إختارته، لم يفلح في إخماد قتيل ثورة متوهجة خاض من خلالها الشعب الجزائري، تحت لواء جبهة التحرير الوطني كفاحا مريرا، ودفع ثمنه باهظا، مليون ونصف مليون شهيد ومئات الآلاف من الأرامل واليتامى والأسر المشردة، وكذا مئات الآلاف من المعتقلين والسجناء، وتخريب ودمار في كل مكان وزاوية، وفي نهاية المطاف إعترفت فرنسا بإستقلال الجزائر، فانتصر شعبنا إنتصارا تاريخيا، ودخل عدونا في حداد أزلي.. ! وأعطى للعالم بأسره درسا في الشجاعة والصمود. * لماذا تحتفل فرنسا بخمسينية إستقلال الجزائر!؟ ها نحن اليوم نحتفي بمرور نصف قرن على هذا الحدث الهام والمنعرج الحاسم والمحطة البارزة من تاريخ الثورة المجيدة، ونتذكر بكل إعتزاز وإفتخار حنكة وبسالة أبطالنا، الذين رفضوا الظلم جملة وتفصيلا، وجاهدوا وناضلوا في سبيل أن يحيا وطننا في كنف الحرية، ويبسط سيادته كاملة غير منقوصة، فمن المنطقي والبديهي الطبيعي أن تحتفل الجزائر بمرور خمسين سنة على إنتزاعها للإستقلال، الذي أخرجها من بطش الإستدمار، لكن ما يثير الكثير من التساؤلات ويصنع العديد من علامات الإستفهام ، هو لماذا تحتفل فرنسا بهذه الذكرى؟ حيث أعدت لها العدة من خلال تنظيم الملتقيات وعقد الموائد المستديرة والمستطيلة! وإنتاج الأفلام الوثائقية ونشر كتب حول حرب الجزائر، تجاوزت المائة عنوان!!، وشرعت في تطبيق برنامجها الإحتفالي منذ الفاتح يناير الماضي، أما نحن فلا نزال نحضر ونسطر وننتظر حلول الخامس جويلية! لكي نحتفي بهذه المناسبة الكبيرة، رغم أننا من طينة من صنعوا هذا الحدث المصيري في تاريخ ثورتنا الخالدة، أوليس الأمر يعنينا بالدرجة الأولى أكثر من غيرنا؟ فلماذا لم نستبق الأحداث ونجعل من 2012 سنة خمسينية الإستقلال الوطني؟؟ على غرار تظاهرة »الجزائر عاصمة الثقافة العربية« و»تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية!! لقد إستغلت فرنسا هذا الفراغ لتسده على طريقتها، وتقول فيه ما تريد رغم أنها تعي وتدرك تمام الإدراك أننا نتقاسم نفس التاريخ، لكننا لانتقاسم نفس الفرحة!! .. فيشتان بين الإنتصار، والإنكسار! * حقائق مغيبة في مائدة »حرب الجزائر : التمزّق« الذي بث على القناة الفرنسية العمومية الثانية »فرانس 2« الأسبوع الماضي وجاء متوبعا بنقاش من تنشيط الصحفي الشهير »دافيد دولاروس« في حضرة المناضل والمحامي علي هارون، والمؤرخ بنجمان سطورا وبعض الوجوه الإعلامية الفرنسية، وفي غياب تام لشهود عيان ممن عايشوا الثورة بحذافرها وكانوا من صناعها، وحاربوا أشكال الظلم والإستبداد والطغيان، وكافحوا في سبيل حرية الوطن وهم لحد الساعة أحياء يرزقون، فهذا النقص المدروس.. جعل طاولة النقاش تميل إليهم وتنحاز لهم، لم تستو فيها كفة »الرأي« و»الرأي الآخر«، فكان النقاش فيها أحادي الطرف. أما _إذا تحدثنا عن فيلم »حرب الجزائر: التمزّق« الذي عقدت من حوله هذه المائدة »العرجاء« للمخرج »غابر يال لو بومان « وكتب نصه المؤرخ »بنجمان سطورا« فقد إتسم ظاهره بالموضوعية والحياد، أما باطنه، فكان في الحقيقة يروّج للرأي الفرنسي،حيث لعبت فيه فرنسا دور الضّحية والبريئة والحافظة لحقوق الإنسان، فيما أدخلت الجزائر »قفص الإتهام« بطريقة سلسة من خلال صور عرضت لأول مرة، عرف المخرج كيف ينتقيها أو ربما أحسن إختيارها من خزانة الأرشيف المهربة! حتى تساير الطرح الفرنسي، الذي يسوى بين الظالم والمظلوم، كل هذا جرى وسط تجاهل تام لضحايا حرب التحرير الوطنية، الذين غيبوا في هذه الوثيقة بمنطق السياسة لا التّاريخ، إذ يمنح الفيلم الحق للفرنسيين ويتمادى إلى تقزيم حجم الثورة وتصويرها على أنها إنتفاضة »فلاڤة« ومجرمين وقتلة، وغضت النظر عن جرائم الحرب التي ارتكبتها في حق مواطنين عزل، من خلال خدع سينمائية وتقنيات جد عالية صورت على طريقة »تيتانيك«! بغية الإبحار في تاريخ حسب هواها، حتى تسوّق أفكارها السياسية ورسائلها عبر فضائيات وإعلامها الثقيل، ونحن نعترف أمام الملأ أنها تملك الخبرة والتجربة الطويلة والمؤهلات والوسائل اللازمة في مجال الإعلام والسمعي البصري، ربما لن تقدر شاشتنا الصغيرة على منافستها فيه، الفيلم لم يؤرخ لحرب مجهولة الإسم، بل أنها ثورة حقيقية ضد الإستعمار والظلم والطغيان، فحزب التحرير الوطني لا يزال متمسكا بمطالبه، الإعتراف بجرائم الحرب التي ارتكبتها فرنسا في حق الجزائريين والإعتذار عن ما إقترفته من تنكيل لايزال محفورا في الذاكرة الجزائرية، فالفيلم لا يعدو أن يكون ومضة فاعلة من أرشيف ضخم مهرب، فهل هي خطوة أولى لبداية تسرب وثائق أرشيف معتقل؟