اتكأ بجسده الهزيل على السنين الماضية، تأمل بصمت عيون من حوله ، اجتهد في تفسيرها ، سبر أغوارها ، بعضها كان يملآها الحزن والألم ،وأخرى يملأها الحقد والكراهية ... وأخرى اغرورق بدموع التماسيح ، فقط هي عيون ابنته كانت تقطر دماً . أيام رمادية تدوس البساطير خونة التاريخ ، يدوس الحاقدون أطفال الزمن المشوّه ، تحرق أيدي الظلم كتب التاريخ القديمة، تجف مياه النهر وتبقي الأسماك على قيد الحياة ... يستنشق الأموات رائحة الخيانة ، يقفز المقعدون خلف حواجز الألم ، تسير الغيوم مسرعةً عكس اتجاه الرياح ، وشجر الورد ينبت بلا أشواك ، ويختلط الليل بالنهار وتصبح الأيام رمادية قاتمة. شوق وعناق تستند إلى الجدار بكبرياء وشموخ , يقترب منها ، يسمع أنفاسها ، ينظر إليها , يرمقها بنظرات حبلى بالإعجاب يقترب ... يقترب وكلما اقترب تزكم أنفه روائحها الزكية ، تدور عيناه , تتسارع دقات قلبه , يقشعر بدنه يحاول لمسها ، ترجف يداه ، يستجمع جرأ ته ، يقترب ... يقترب ، تلامس كفاه جسدها الناعم , يطير قلبه فرحاً يشدها نحوه يعانقها فهي بندقية والده الذي استشهد وتركها لمن بعده. غضب ...وعيون يحاول جاهداً أخذ مكانِ لسيارته أمام عيادة الطبيب الذي اعتاد زيارته بين الفينة والأخرى ، سائق عربة الإسعاف يرفض التحرك لإفساح مجال لاصطفاف سيارة أخرى ، رغم أن المجال يسمح بذلك ، يزعجه بزامور طويل ، يقض مضاجعه ، ويحرك سائق سيارة الإسعاف سيارته على مضض ، يترجل من سيارته بعد أن أخذ لها مكانا يضمن سلامتها ، يرمق سائق سيارة الإسعاف بنظرات تنم عن غضب شديد ، وعتاب فيه الجرأة والتحدي ، ثم يصعد في خفة ونشاط إلى عيادة الطبيب ، يتمدد على السرير ، يفحصه الطبيب بعناية كما اعتاد ، ولكنه هذه المرة يطيل الوقوف أمام الجسد المسجى ، الذي همد وزالت منه الحياة فجأة ، فالقلب قد توقف عن الحركة ، والعينان زاغتا ، والأطراف ارتخت ، يصرخ الطبيب على الممرض ، اطلب سيارة إسعاف ...لا بد من نقل المريض إلى أقرب مستشفى ، يصعد سائق سيارة الإسعاف برفقة طاقم الإسعاف ، ينظر إلى عيني المريض ، كان قد زال منها الغضب ، وانتشر فيها وعلى أطرافها الضعف والألم .