من العبث أن يستسلم الكاتب الواعي لسعادة وهمية استضاف قسم وحدة البحث حول الثقافة و الاتصال و اللغات و الآداب و الفنون "الألف" بالتنسيق مع بيت الترجمة أول أمس بمسرح "عبد القادر علولة" بوهران الروائي المبدع " بشير مفتي " في أمسية أدبية راقية حضرها عدد من المثقفين والطلبة الجامعيين وكذا الإعلاميين ، حيث أعرب الكاتب خلال اللقاء الذي أشرف عليه كل من رئيس وحدة البحث " محمد داود " و الأستاذ " عبد الرحمان زاوي " عن سعادته الكبيرة لتواجده بوهران ، هذه المدينة التي زرعت فيه حب التلاعب بالكلمات و توظيفها ضمن سياق جمالي لامس تفكير القارئ و استوطن قلب العاشق دون سابق إنذار، ليعتقله سحرها الوهاج ويجعله رهينة لحضارتها العريقة وجمالها الأخاذ ، الروائي بشير مفتي الذي تميزت كتاباته ببنية سردية راقية وقدرة كبيرة على ترجمة الواقع كما هو دون تزييف أو تحريف ،عرف كيف يختزل الوقت حتى يكشف عن الواقع الاجتماعي و السياسي الراهن وما له من دلالات و أبعاد مختلفة في مجتمعنا الجزائري وحتى العربي ، ليس فقط من خلال " غرفة الذكريات " بل أيضا من خلال مؤلفاته الأخرى على غرار " أرخبيل الذباب" ،"شاهد العتمة " ، "أشباح ملونة"، و"دمية النار" التي وصلت إلي اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2012 . وفي هذا السياق حاول الأستاذ " مفتي " أن يكون صريحا في تقييمه للمشهد الثقافي بعاصمة الغرب الجزائري، حيث قال بنبرة حزينة و أسف شديد " وهران تراجعت ثقافيا في الفترة الأخيرة ، وهذا آلمني بشدة .."، مضيفا أن المدينة كانت ملهمته في وقت من الأوقات ، لدرجة أنه لم يقاوم إغراءها الثقافي وسحرها الفني ،ما جعله يدرجها ضمن كتابيه الشهيرين " أرخبيل الذباب " و " شاهد العتمة "، واليوم ها هي تغيب تماما عن الساحة الفكرية التي كانت في أوجها أيام الراحل " بختي بن عودة " والمسرحي الكبير "عبد القادر علولة " و أيضا "عمار بلحسن " وغيرهم من المثقفين الكبار الذين خلقوا دينامية كبيرة من خلال أعمالهم و نشاطاتهم الأدبية والفنية ، وعن " غرفة الذكريات " قال " مفتي " إنه حاول من خلال مؤلفه الرجوع بالذاكرة إلى جزء من التاريخ الثقافي للجزائر وكذا السياسي ، وبالتحديد خلال سنوات العشرية السوداء التي تعد فترة تاريخية هامة في نظره ،معتبرا أن اختياره لهذه المرحلة ما هي محاولة جادة للشفاء منها و التعافي من ندوبها ، طارحا عدة تساؤلات حول سبب دخولنا كابوس العشرية رغم استقلالنا غير البعيد ؟ ، و فيما إذا كنا قد خرجنا منه حقا أم لازلنا قابعين في دوامته ؟، و في ذات الصدد قال " مفتي " إن الكاتب لا يولد لأننا نرغب به ، بل هو نتاج طبيعي لمناخ ثقافي ، وأيضا شغف بالكتابة والقراءة، وفي رده عن سؤال طرح حول وجود الأدب السعيد قال "مفتي " إنه لا يوجد أدب سعيد بل ترفيهي فحسب ،فعندما يكون الكاتب واع ومدرك لأشياء كثيرة، فمن العبث أن يستسلم لسعادة وهمية،مضيفا أن الحياة هي تراجيديا تتبلور في نظرية " نحن نولد ، نعيش ثم نموت " ، كما أن فيها الكثير من المخاوف و الألم ، والأدب جاء ليوعي القارئ ويجعله يدرك هذه المعادلة الواقعية ، و في الأخير قام " بشير مفتي " بتوقيع روايته ببهو مسرح " علولة " الذي احتضن أيضا معرضا لمؤلفات الكراسك . تجدر الإشارة إلى أن " غرفة الذكريات "هي ثنائية الحب وسنوات العنف الأليمة التي ترجمها الروائي من خلال بطل القصة "عزيز مالك " الذي استعاد شريط ذكرياته مع حبيبته "ليلى مرجان " التي تركته وتزوجت من رجل آخر لا تحبه ،وذلك من خلال رسالة بعثتها تبرر فيها موقفها وسبب رحيلها ، كلمات الأسف تلك نبشت بعمق ذاكرته المتهرئة بالألم والاشتياق ،فيجد نفسه حبيس قصة عشق قديمة جعلته يتخبط في دائرة كبيرة من اليأس و الكآبة ، فهو الكاتب الحالم الذي طالما أغرته الحياة الأدبية و النصوص الروائية التي جعلته يطير عاليا في سماء الحلم و النجاح ،لكن هيهات .. !!، فالواقع أمر من ذلك بكثير ، كيف لا ؟ وهو يشاهد بلده يغرق في عالم سوداوي عنيف وتحولات أمنية خطيرة كان مخاضها عسيرا ودمويا ،ورغبة منه في إيجاد أجوبة لاستفساراته العديدة يلجأ " عزيز " إلى صديقيه المفكرين " جمال كافي " و " سمير عمران " اللذان جمعهما الأدب وفرقهما الموت ،بعد اغتيال الأول من طرف الإرهاب و انتحار الثاني .