كلُّ بشر سوِيٍ منا في هذه الحياة تأخذ بلبه بعض الهوايات أو تستهويه حاجات أخرى ، قد نحب الموسيقى و الغناء ، فلا نترك حفلا إلا و قد حضرناه، أو طابعا من الغناء إلا و كنا من مستمعيه و هواته و مرددي بعض كلمات هذا المطرب أو ذاك ، و قد نحبّ الصيد فيصير بعضنا عاشقا مجنونا له و مولعا به ، إذ يترك بيته و عائلته و يتيه لمدة قد تصل أسبوعا هائما في البراري و الجبال والصحارى، متصيدا غزالا أو طائر الحبارى ،أو حتى مجرد أرنب هزيل لا يغني و لا يُسْمِن من جوع ، و قد يحبّ آخر الأسفار و التّجوال الدائم فتجده تائها كل مرة يقطع البحار و المحيطات ، و يشقّ الجبال متسلقا و مغامرا بصعوده لأعلى القمم الشامخة و متزلجا في الثلوج و الأوحال ،يسقط مرات و ينهض مرات ..يركب الطائرات تارة و البواخر تارة أخرى ، و يمتطي السيارات الرباعية الدفع، أو يتخذ من الحصان وسيلة في تنقله و سفرياته . الأديب الراحل و الصديق الروائي الطاهر وطار صاحب اللاز ، وعرس بغل وصاحب المجموعة القصصية دخان من قلبي الذي أخذ منه المخرج القدير الصديق عبد العزيز طالبي قصة " نوة " ليحولها إلى فيلم عام 1972 واحدٌ من عُشّاق الغناء الشاوي ،و بالأخص عيسى الجرموني صاحب العَيْطات الشهيرة ، منذ عرفت الطاهر وطار قبل أكثر من 45 عاما إلا ووجدته ،و خصوصا عندما يكون في خلوته الخاصة يدندن بل و يردد بعض العَيْطات من أغاني المطرب الكبير الراحل عيسى الجرموني ،كان سي الطاهر يحدثني بين الحين و الآخر عن هذا المطرب الظاهرة ، و يتنهّد لكون أن معظم أغانيه غير مسجلة ،قبل أسبوعين التقيت بالصديق واسيني الأعرج في مقهى و مطعم الاستراحة المواجه لدار أوبيرا باريس ، و راح الصديق واسيني الذي كانت برفقته الشاعرة المغربية الرقيقة أحلام لقليدة يحدثني عن روايته الجديدة " كازانوفا " التي يعكف على كتابتها الآن ، و عن أشياء أخرى من بينها المآلات المأساوية التي انتهى إليها الربيع الدامي في بعض البلدان العربية ، كنت من جهتي خلال ذلك اللقاء شارد الذهن ، و أنا أستحضر صور كثير من عمالقة الفن الذين مروا على ركح ذلك المَعْلَمِ الفني الرائع المقابل لنا، و فجأة وجدتني أستعيد صورة وطَّار وهو يطلق بعض الزفرات من عيطات الجرموني بين جدران الجاحظية قبل سنوات ،حيث كان يردد مثل مراهق أخذه الحنين إلى معشوقته أو مغترب أبعدته الظروف حيث تشده بعض أغاني المطرب عيسى الجرموني فنجده يتأوه كالجريح المكلوم. لقد كان عيسى الجرموني و هو يصدح بصوته عاليًا في قاعة تلك التحفة الفنية الرائعة لأوبرا باريس منذ ثمانين عاما سنة 1936 أول مطربٍ من العالم العربي و من إفريقيا يعتلي ذلك الصرح، و يشدو بالغناء مُوصِلا تأوهاته وصوته الجهوري و عيطاته الشاوية الجزائرية المميزة لمئات الأشخاص الذين جاؤوا للاستماع إلى ذلك الصوت النادر في عصره ، بعد أن كانت تلك العَيْطات قبل ذلك تتردد عبر الصدى على بعد عدة كيلومترات من قمم جبال الأوراس الأشم ،يقولُ الطاهر وطار رحمه الله بأن عيسى الجرموني بدأَ حياته الفنية وهو يغني مع الفلاحين البسطاء عندما كانوا يقومون مع كل صيف بعمليةِ حصادٍ جماعي فيما كان يُعرف بالتويزة ، و هي عادة جزائرية أصيلة تعتمد على التضامن في عملية حصاد جماعي للمحصول من القمح و الشعير، خاصة إذا كان الموسم وافرا وجيدا ، حيث تتعاون العائلات و الجيران و حتى بعض العروش في تلك العملية التي تجسد أنبل قيم التعاون و التضامن . و كان أولئك الفلاحون يحثُّون الجرموني كل مرة على الغناء لتحفيزهم على عملية الحصاد حتى لا يملون، حيث ذلك الصوت الجهوري يصاحبهم ، وحيث يصل صداهُ إلى مناطقَ بعيدة، وهكذا اشتهر الجرموني ،حيث أصبح الناس في مواسم الأعراس و الحفلات و الأعياد يستدعونه للغناء في معظم مناطق الأوراس خصوصا و الشرق الجزائري عموما، قبل أن تَمتد شهرته إلى خارج الوطن ويقول بعضهم بأن صوت الجرموني كان مداه يصل إلى عشرات الكيلومترات ، خاصة عندما يكون في قمة الجبل و أثناء الليل ، حيث السكينة والهدوء ، و حيث لا صوت يَعْلو على صوت الجرموني و عيطاته . لم يكن هذا المطرب الشاوي الأصيل منغمسا في الملذات، و لم يكن بعيدا عن قضايا وطنه، فقد رفض الخدمة العسكرية في صفوف القوات الفرنسية، وتقول بعض المصادر إنه قال بصريح العبارة لمحدثيه بأنه لن يكون جنديًا في صفوف مَنْ يقومون بقمع الضعفاء من أبناء وطنه و لا في أية رقعة أخرى من العالم، كما أن عيسى الجرموني ظلّ متمردا على الإدارة الاستعمارية الفرنسية ، إذ لم يكن يدفع حتى الضرائب لها ..فكم نحتاج عندما يصيبنا الإرهاق و القرف من بعض الجعجعات السياسية الفارغة التي باتت تملأ فضاءات عدة إلى أصواتٍ جميلة مثل أصوات عيسى الجرموني و خليفي أحمد و المناعي و درياسة والشيخ حمادة و الحاج العربي بن صاري و الجيلالي عين تادلس و أحمد وهبي و دحمان الحراشي والهاشمي و قروابي و الحاج العنقاء و آيت منقلات وعبابسة والفرقاني و غيرهم ،و كم نحتاج إلى رنَّة موسيقية جميلة تصنعها آلةُ القصبة أو الناي أو الكمنجة أو العود أو الموندول أو الإيمزاد التارقي أو حتى الدربوكة والبندير كلما تعبنا من صخب المدينة وضجيجها . كم جميل أن يُطْلق المرء إن كانت له حنجرة أو خامة صوتية ،عَيطة من عيطات الجرموني، و غناءً من أغاني هؤلاء وموسيقى أولئك من أمثال إيقربوشن و الري مالك لتُذْهِب التعب و تُزِيل الأرق ، و كم جميل أن يُرَدد الواحد منا صوتا رُجُوليًا يُحِسُّ فيه بشهامة الرجال من أمثال الجرموني ، أو يستمتع بصوت نسائيٍ رقيق فيه عبق الأنُوثة و السحر والعطر و البخور من تراب البلد ..