الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله .. أما بعد: ها هي ذي عشرة أيام تمضي من رمضان، فوالله الذي لا إله إلاّ هو ما أحسسنا بها ولا شعرنا كيف مرت بين أيدينا وتسربت منا، كما تتسرب الشهور والأعوام، ونحن في غفلة وتهاون حتى نحمل على الرقاب، نحو المقابر لفصل الخطاب، وعندها ندرك حقيقة ما ضيعنا من أوقات في اللهو والغفلة والمعاصي، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:قال النبي (صلى الله عليه و سلم):(نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ). و قد شبّه النبي (صلى الله عليه و سلم) في هذا الحديث الإنسان بالتاجر الذي له رأس مال، والصحة والفراغ بأسباب الأرباح ومقدمات النجاح، فمن استعمل صحته وقوته وفراغه ووقته في طاعة الله تعالى ربح في تجارته مع الله عز وجل، ومن استعمل صحته وفراغه ووقته في معصية الله تعالى خسر رأس ماله، فهو مغبون لا يحسن تدبير أموره. لأجل هذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أشد الناس حرصًا على اغتنام أوقاتهم في ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه وتعلّم دينه والإحسان إلى خلقه،فمن ذلك عامر بن عبد قيس إذ قال له رجل:قف أكلمك، قال: أمسك الشمس، أي إن استطعت أن تمسك الوقت فلا يمر فسأقف،وكان داود الطائي يستف الفتات، يأكل فتات الطعام،ويقول: بين سف الفتات وأكل الخبز قراءة خمسين آية، وكان عثمان الباقلاني دائم الذكر لله تعالى،فقال: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر. وأوصى بعض السلف أصحابه فقال:إذا خرجتم من عندي فتفرقوا لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدّثتم. هكذا كانوا عليهم رحمه الله، كانوا أشد الناس بخلا بأوقاتهم، فماذا يقولون لو اطلعوا علينا ورأوا كيف نضيع أوقاتنا، في هذا الشهر المبارك خاصة، وفي سائر أيام السنة عامة؟ فكثير منا من يلهي نفسه في رمضان باللعب واللغو، ويقول: نقتل الوقت حتى يصل الإفطار. وما ندري أننا بتضييع أوقاتنا فيما لا يرضي الله تعالى نقتل أنفسنا، وليس الوقت لأن الوقت محسوب من أعمارنا وحياتنا. إننا لا نعرف قدر وقيمة نعمة الحياة والصحة والفراغ والشباب والغنى إلا بعد زوالها وفقدها فلنغتنم فرصة وجودها، ولنسخرها في كل ما يوصلنا إلى جنات ربنا عز وجل ويباعدنا عن عذابه، هذا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهرنا، ويتردد في أسماعنا، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيناه خاشعا يتصدع، ومع هذا فلا قلوبنا تخشع، ولا عيوننا تدمع، ولا صيامنا يبعد عن الحرام فينفع، ولا قيامنا استقام فقلوبنا خلت من التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع،كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا من رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم وزادتهم إيمانا، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار؟. أوليس لنا فيهم اقتداء وأسوة ؟! كلما حسنت منا الأقوال ساءت منا الأعمال، سيشهد علينا رمضان، وسيشار لكل واحد منا يوم القيامة: شقي فلان وسعيد فلان، اللهم لا تجعلنا من أهل الشقاء، واجعلنا من أهل السعادة والرضوان. فلنستدرك ما فاتنا من رمضان، ولنجعل ما بقي من شهرنا أحسن مما فات، ولنتذكر قوله (صلى الله عليه و سلم): (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) وقوله (صلى الله عليه و سلم أيضا):(من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). فمن صام رمضان لله تعالى طاعة له ليس لأجل أنه رأى الناس صاموا فصام، ورجاء ثوابه، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام لياليه مصليا مخلصا لله تعالى ورغبة في مثوبته، غُفر له ما تقدم من ذنبه، وخرج من رمضان كيوم ولدته أمه، و من فضل الله على الصائمين قوله (صلى الله عليه و سلم) :(إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) فمن صلى صلاة التراويح مع الإمام حتى ينتهي من آخر ركعة منها، كتب له أجر قيام ليلة بأكملها، و هذا من فضل الله على عباده المؤمنين، ولكن أكثر الناس عن شكر هذه النعمة غافلون. فمن أراد الفوز بالجنة والنجاة من النار،فما عليه إلا اغتنام وقته وصحته وماله في هذا الشهر المبارك خاصة،في طاعة الله تعالى والتقرب إليه،فلعل الواحد منا يكون هذا الشهر آخر رمضان يعيشه، فيكون ممّن أعتق فيه من النار.