منذ ثلاثة أشهر تقريبا وأنا أبحث في مدينة لندن عن المؤلفات الجديدة الصادرة في بريطانيا، رأيت سلسلة من الكتب تتصدر رفوف المكتبات تحت عنوان " مفكرون للمعماريين"، ويتلخص مشروع هذه السلسلة في دراسة مؤلفات كبار المفكرين والفلاسفة الغربيين واستخراج الرؤى والعناصر المعمارية التي تتضمنها قصد توظيفها في عمليات إنجاز بنايات المدن والقرى، والحدائق، والساحات العامة، والطرقات، وتصميم المسرحيات، والسيارات وهلم جرا. يا لها من فكرة جميلة نفتقدها في حياتنا الفكرية والفنية العربية مع الأسف، ويعود هذا إلى انعدام التربية الثقافية الفنية المتطورة التي تشجع البحث عن مصادر المعمار في الفكر وفي مختلف أشكال التعبير الأدبي والفني عندنا، وإلى عدم العمل بالفكرة القائلة إن أي عمل ذي قيمة مضافة في الفكر والشعر وفي مختلف أجناس السرد والنحت والرسم والموسيقى، له عمارته الجمالية الناتجة عن جماع التركيب المبدع للتجربة الإنسانية النفسية والحياتية في حوارها مع عناصر الطبيعة. في سلسلة الكتب المذكورة آنفا نجد أبرز أساتذة الدراسات المعمارية في الجامعات والمعاهد العليا وكذلك المهندسين المعماريين في الغرب يقيمون علاقة استيعاب وتمثل وتطبيق مع كتابات فلاسفتهم ومفكريهم في مختلف الحقول المعرفية ويتخذونها منبعا لأعمالهم الفنية المعمارية، الأمر الذي يعني عندهم أن الفن المعماري في أرقى أشكاله يتأسس على مرجعيات الفكر والثقافة الشعبية والعالمية، والآداب والموسيقى. إنه جراء إدراك هؤلاء لهذه الحقيقة فإننا نراهم يجتهدون للكشف عن الأبعاد المعمارية التي تتضمنها كتابات الفلاسفة وعلماء الاجتماع، ومنظري الثقافة والمبدعين في الآداب وغيرها من أشكال التعبير الفني أمثال أفلاطون، وكانط، وهيدغر، وبورديو، وفلتر بنيامين وغيرهم الكثير. وهنا نتساءل: لماذا لا نجد مثل هذا البحث والاجتهاد لدى منهدسينا المعماريين ولدى باحثينا في مجالات الفكر والثقافة والفنون من أجل إبراز العناصر المعمارية الدالة على هويتنا المتميزة في أعمال فلاسفتنا ومفكرينا وروائيينا وشعرائنا، وموسيقيينا، وفنانينا التشكيليين مشرقيا ومغاربيا على سبيل المثال عند الفارابي، وابن رشد في الفلسفة، وابن خلدون في علم الاجتماع الحضاري، والسياب في الشعر، ونجيب محفوظ في الرواية، ومحمد غني حكمت وجواد سليم ومحمد راسم في الفنون التشكيلية، ومحمد عبدالوهاب ومحمد إقربوشن في الموسيقى، مع العلم أن إبداعات وأفكار هؤلاء وغيرهم تتوفر فعلا على تبصيرات ورؤى معمارية جمالية تنتظر فقط من سيكشف عنها لكي توظف في ما بعد توظيفا فريدا من نوعه.