حين التطرق إلى الأدب الشعبي، يميل البعض إلى تصور أنه ذلك الإبداع الأدبي الذي يكتب باللغة العامية، أو تنتجه الجماعة الشعبية.. ولكن البعض الآخر يفهم أكثر من هذا المصلح بأنه يتعلق بمختلف أشكال الإبداع التي توارثناها جيلا بعد جيل، وهو ما يصطلح عليه أيضا بالتراث اللامادي. سنحاول في هذا المقال، الذي جمعنا فيه مختلف الآراء والكتابات حول هذا المصطلح (بتصرف)، أن نقدّم أهم التصنيفات والمقومات والخصائص التي قد تميّز الأدب الشعبي بمفهومه التراثي، عن غيره من إبداع حديث يقدّم على أنه شعبي.. يمكن اعتبار الأدب الشعبي على أنه «فنّ القول الذي تنتجه جماعة شعبية، يتناقله أبناؤها بوصفه ذخيرة مشتركة مشاعة بينهم»، حسب قاسم بوكراع، وهو «أحد فنون التعبيرات الفنية الشعبية التي هي، بدورها، فرع من التراث أو المأثورات الشعبية». خصائصه والأدب الشعبي مصطلح عربي مستعار من الكلمة الغربية فولكلور Folklore، ويرتبط هذا المصطلح في الأبحاث العربية بتعريفات محددة، منها أن «الأدب الشعبي لأية أمة هو أدب عاميتها التقليدي الشفهي، مجهول المؤلف، المتوارث جيلا بعد جيل». وللتعريف الأول الذي ذكرناه مبرراته، إذ يرى صاحب التعريف أنه لا يصبح القول أدبًا إلا إذا صيغ صياغة فنية، أي حكَّمت هذا القول معايير فنية، وكان له ضوابط في التركيب، واتخذ شكلاً تقره الذائقة الجمالية المشتركة بين أبناء الجماعات الشعبية الذين يتناقلونه. كما لا يكتسب الأدب صفة الشعبية، إلا إذا كان صادرًا عن جماعة شعبية معينة، بمعنى أن يكون هذا الأدب منتميًا إلى الذخيرة الإبداعية المحفوظة لجماعة شعبية، وأن تكون هذه الجماعة هي التي تتداول إبداعاته، ويتناقله أبناؤها باعتباره ملكًا مشاعًا بينهم، ويتبنونه ويحافظون عليه بوصفه معبرًا عن قيمهم ومثلهم ورؤاهم المشتركة. مقوماته ومن مقوّمات الأدب الشعبي نذكر الجماعية: وهي مما يؤثر في طبيعته وتركيبه وخصائصه المميزة. وجماعية الأدب الشعبي تباين فردية الإنتاج الأدبي الذي يؤلفه أفراد يعبرون عن ذواتهم ورؤاهم الخاصة. وتظهر الصورة الأولى للنص بمبادرة فردية، «ولكنها تلقى قبولاً ويتداولها سائر أبناء الجماعة الشعبية، ثم تمر بعمليات متوالية من التعديل، بالحذف والإضافة والصقل، بانتقالها تنتقل من راوٍ إلى آخر، ومن جيل إلى جيل، ومن مكان إلى مكان». الشفهية: إذ تتم عمليات إنشاء نصوص الأدب الشعبي وروايتها وحفظها بالطريق الشفهي، دون اعتماد على التدوين والكتابة في معظم الحالات التقليدية. ومن آثار المشافهة شيوع التكرار، والميل إلى تحوير الكلمات واللعب بها، والاستقلال النسبي لوحدات هيكلها البنائي، واعتماد منطق التصوير الفني فيها على التراوح بين الإلماح والتفصيل، والارتكاز على الإشارات المختزلة سواء إلى التصورات المرجعية أو إلى المظاهر الواقعية. العراقة: إذ يرى ذات الباحث بأنه لا يصبح النص الأدبي الشعبي شعبيًا بالمعنى الدقيق، إلا إذا تبنته الجماعة الشعبية كما سبق ذكره، وهو ما يحتاج إلى قدر من الزمن، لذلك اشترط دارسو الأدب الشعبي مرور زمن مناسب على تداول النص. كما أن المأثور الشعبي هو حصيلة خبرة متراكمة. الامتزاج: في العادة، لا تظهر مكونات المأثور الشعبي إلا متداخلة مع ممارسة من ممارسات الحياة الجماعية وممتزجة بها، وهو ما لا ينطبق فقط على تداخل مكونات المأثور الشعبي مع النشاطات الحياتية للجماعة، بل أيضا على مكونات المأثور الشعبي نفسها التي تتداخل فيما بينها.. مثلا امتزاج «أداء الشعر وتزامنه مع الإيقاع الموسيقي والغناء، ومع التعبير التشكيلي بالتزين بزينة مخصوصة، ومع التعبير الحركي، وذلك عند أداء رقصة تقليدية. وترتبط الرقصة، بدورها، بسياق احتفالي أو مناسبة شعائرية جماعية، لها وظيفتها في حياة الجماعة الشعبية». تصنيفاته يخضع الأدب الشعبي لتصنيف شائع، نجد ضمنه «الأنواع الشعرية»، التي تشمل «أغاني العمل»، «أغاني البيت» (هدهدة الأطفال أو تنويمهم أو ملاعبتهم)، «أغاني الصبية» (ألعاب الأطفال)، «أغاني الأعراس»، «أغاني السمر»، «أشعار السمر»، «الشعر القصصي المُغنّى» (يُروى في تجمعات المناسبات، وخاصة الدينية منها)، «أشعار السير الشعبية». كما نجد «الأنواع النثرية»، وتشمل «قصص البيوت والأسرة»، «قصص مجالس السمر»، «السيرة الشعبية»، «النوادر الشعبية»، «الألغاز الشعبية»، و»الأمثال الشعبية». المؤلف المجهول وجماعية التأليف لم يرد جهل المؤلف كشرط في تعريف الأدب الشعبي، بل إن الكثير من المؤلفين يذكرون أسماءهم في آخر القصيدة إلى جانب تاريخ نظمها في أحيان كثيرة. وكشفت الأبحاث عن خطأ افتراض مؤلفات أنتجها الإبداع الشعبي اللا شخصي، فكل مؤد للأعمال الشفهية إنما هو مبدعها في آن واحد، لذا فإن جهل مؤلف العمل الأدبي «يرجع إلى أن أسماء المؤلفين لم يكشف عنها في أغلب الأحيان لأنها لم تدون وصارت وسيلة حفظها ذاكرة الشعب فقط». وهكذا نجد مفهوم «المؤلف الجماعي» في الفكر الحديث عند مفكرين، الأول لوسيان غولدمان والثاني ميشيل فوكو. وقد حاول الأول بلورة المفهوم من خلال منظور ماركسي قائلا بأن الكاتب أو الأديب «لا يعبر عن ذاته بقدر ما يعبر عن الوعي الجماعي أو قل أنه فيما يعبر عن ذاته ينضج بوعي جماعة ما أو طبقة ما أو فئة ما». فيما طرح ميشيل فوكو فكرة «موت المؤلف» أو «امّحائه»، فالمؤلف ليس فردا ولا صوتا واحدا وإنما حصيلة مجموعة الأصوات والأفكار التي يتلقاها من المحيط وتخترقه فيسجلها على الورق، بمعنى آخر فإنها له وليست له. بين الفصحى والعامية هل يجب اعتماد اللغة معيارا لتصنيف الأدب الشعبي؟ أم أن المحتوى هو الأساس في هذا التصنيف؟ يميل الباحثون إلى كون العنصرين لا يقل أحدهما أهمية عن الآخر، فهما إذن متداخلان ومن الصعب الفصل بينهما. ويمكن اعتبار أنه: ليس كل ما يكتب بالفصحى يكون بالضرورة أدبا رسميا، فالكثير من الآثار الأدبية الخالدة كتبت أو رويت بالفصحى البسيطة وهي مع ذلك تصنف في الآداب الشفوية أو الشعبية (ألف ليلة وليلة والسير العربية)، ف»الفصحى إذن ليست شفيعا لهذا الأدب من أن يكون شعبيا». وما كل ما يكتب بالعامية كذلك يعد بالضرورة أدبا شعبيا، وتجري هذه السيرة على ما يكتبه المثقفون من مسرحيات وروايات وكلمات أغان بالعامية التي لا ينبغي أن ترقى إلى درجة الأدب الشعبي. كما أن هنالك سؤالا آخر: كيف ينتقل الأدب الشعبي من جيل إلى جيل آخر؟ والجواب هو أنه يعتمد على قناتين أساسيتين، هما قناة شفهية وأخرى كتابية.. ويمكن للإنسان أن ينتج بالكتابة نصا شفهيا روي إليه ويستطيع أيضا أن يقرأ نصا مكتوبا وأن يرويه شفهيا بعد ذلك لشخص معين. وهكذا يمكن أن يتحول الإنتاج الشفهي إلى إنتاج مكتوب والعكس صحيح بعد أن يطرأ عليه تعديلات سلبية أو إيجابية في الذهن البشري المبدع. والأمثلة عديدة عن الأعمال الشعبية كالحكاية والأغنية والسيرة التي انتقلت من مرحلة الأدب الشفاهي إلى مرحلة الأدب المدون، منها سيرة عنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي، ويعتبر العكس صحيحا كذلك إذ كثير من النصوص التي ثبت أصلها أصبحت موضوعا للأدب الشفهي مثل المعتقدات الوقائع التاريخية.