في نيسان عام 2002 جاءوا برا وجوا ، طائرات وصواريخ ومجنزرات، الأرض صارت رصاصا والهواء رصاصا، وفي كل جسد حي وميت رصاص، تأخر نوار اللوز في ذلك العام ودخل ربيع فلسطين في الجنازات والثورات والانتفاضات العديدة، شهداء يسقطون بالعشرات، اعدامات ميدانية قنابل تقصف حتى القبور التي طفحت في حرب اسرائيل على أرواح الشعب الفلسطيني المتمردة العنيدة. ليست قنبلة، انه كيس فيه ربطة خبز وماء، حمله الشهيد علي فرج أبو ماجد عائدا من عمله الى بيته في مخيم الدهيشة قضاء بيت لحم، المجنزرة الاسرائيلية الواقفة على دوار باب الزقاق في المدينة عمياء، الجندي المهووس الخائف أعمى، الجنود تلقوا تعليمات ان كل كائن حي يتحرك هو قنبلة موقوتة، التعليمات تقول :اضغطوا بسرعة على الزناد، ربما الكيس الاسود الذي يحمله أبو ماجد قنبلة، ربما صندوق اسود فيه كل اسرار الرواية الاسرائيلية الفاشية ، الكيس فيه رائحة الجريمة المنظمة التي ترتكبها اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في عملية ما يسمى السور الواقي . هذا الرجل القادم يقلقنا، يسير بهدوء اللاجئ الفقير الذي لا يملك سوى الكرامة والخيمة، هذا الرجل الستيني يتقدم الى الامام، يخترق الحصار ومنع التجوال، غير أبه لصوت طائرات الاباتشي والآف 16 التي تقصف مقرات السلطة الوطنية الفلسطينية، أطلقوا النارعليه، قال الضابط الاسرائيلي، ربما في الكيس قنبلة، ربما في الكيس حكاية المخيم والنكبة، اقتلوا هذا الرجل واشطبوا الذاكرة. توفيت أم ماجد بمرض عضال وتركت أبنائها الستة الذين نشأوا بين المخيم والسجن والملاحقة، ولا مرة عاد أبو ماجد الى البيت والتقى مع ابنائه الآيتام دفعة واحدة، كلهم في السجون، الحياة في البيت صارت رحلة سفر الى الزنازين ورحلة عودة من الزنازين، ان رأهم في الليل لا يجدهم في الصباح ، مخيم الدهيشة يفيض بالغضب ، يزحف على الأسلاك الشائكة ويرجم الطائرات بالنكافات، المخيم يستقبل أبو ماجد الشهيد، لا زال الكيس في يده، فيه خبز وماء ودماء وبقايا طعام لعامل بائس يبحث عن لقمة العيش والعودة، اللاجئون يحلمون بالعودة حتى لو عادوا شهداء فأن الحلم لا يتأجل ، يكتمل بين الدنيا والاخرة. في بيت الوكالة البسيط بالمخيم سجي جثمان علي فرج أبو ماجد ، وفي تلك اللحظة صار ماجد هو الأب الذي عليه ان يعيل اسرة عصفت بها الرياح، صار ماجد جنرالا منذ صغره، راعيا لأسرته ولخلايا الشبيبة في الأزقة، يرفع شعارا: النهار للاحتلال والليل كل الليل لنا ، قهوته التي يعدها لاحلامه تمنعه من النوم ويبقى على انتظار، وظل وحده يطل على غيوم الصيف الشاردة من وجع الشتاء، سيغفر لي أبي هذا اللجوء الآخر الى نبوءة الكاهنات ورحمة الآلهة قال ماجد وكتب الى والده : لقد رحلت في وقت غامض وغامض يا أبي، الوقت يحمل فجرا ويحمل نعشا وخبزا ووطن، أنا الآن أمام جدارة العدالة الكونية. يتساءل أبو ماجد: ما هذه الدولة المجنونة التي تحاصر كنيسة المهد وتقصف بيت الله والصلاة وتذبح المحاصرين في مذود العذراء، قتلوا قارع الأجراس وأطلقوا الرصاص على الرهبان والراهبات، أطفأوا النجمة، اجتياحات مدججة في كل شارع وبيت وساحة، شهداء في الشوارع وعلى اسطح البيوت والسناسل، بيت لحم صارت معسكرا، بيت لحم تصلب مرة أخرى في التاريخ، صراخ في الكنيسة ومناشدات لانقاذ المسيح. في 10 نيسان صار اللوز مرا، قتلت دولة اسرائيل أبو ماجد ، وشنت حربا على مخيم جنين وأعدمت أبو جندل ، حاصرت أبو عمار في المقاطعة، صواريخ تمزق جسد الشهيد حسين عبيات ، وبأم عيني رايت مخيم الدهيشة يحلق في السماء، اكفان مرفوعة على اكتاف الحارات، دماء في كل مكان، اسماء تشع على الارصفة، القرى المنكوبة تنادي على القرى المنكوبة، نساء وأولاد وشبان وبنات، حجارة كثيرة وزغاريد وزفاف ،انه صوت الجياع للشاعر اللاجئ الأستاذ خليل زقطان : قسما بجوع اللاجئين وعري سكان الخيام لنصارعن الموت من أجل الوصول الى المرام انه غضب اللاجئين الذين ضاعت احلامهم جين كانوا يفتشون عن خبزهم في الصخور وفي الأمل، غضب الذين رفت حول نوافدهم أسراب الطيور وهم يداعبون أغلالهم في نهار مؤجل، غضب الفقير الذي غمس خبزه بالدم وعن صليبه ترجل. ليست قنبلة انه كيس فيه ربطة خبز وماء، يقول أبو ماجد: ربما أجد الاولاد في البيت ، ربما عاد ماجد من النقب، وعاد محمد من عسقلان، وعاد مازن من الظاهرية، وعاد أمجد من الفارعة، وعاد نادر من الدامون، وعاد رياض من نفحة، سنلتم فوق المصطبة ، نفرش الحصيرة ونأكل الزيت والزعتر ونشرب الشاي، نفك القيود عن الايدي قليلا، نتنفس هواء أخر يخلو من الغاز والرطوبة، ننام والباب مفتوح على المدى لا يوقظنا سجان ولا صوت مفاتيح وأغلال ومداهمة. لم يصل أبو ماجد منزله في المخيم، أعدموه كي لا تلتقي العائلة، أعدموه كي يصهروا وعي الحرية والعودة بالبارود والدم، أعدموه كي يحظوا على صورة نصر فوق جثة هامدة، أعدموه كي يحتفلوا بهدوء بما يسمى عيد استقلال دولة اسرائيل ، أعدموه كي يأخذوا اجازة من حروبهم المتتالية، أعدموه كي يتحرروا من اشباح ضحايانا ويناموا دون كوابيس ليلية ،أعدموه كي يتوهموا أنهم يعيشوا حياة طبيعية ، لكن في الكيس خبز وماء، دمنا تحت مخداتهم، أمواتنا تحت فراشهم، صورنا الصارخة في أعينهم، قرانا المهجرة تحت بيوتهم، عذاباتنا في مراكز التحقيق تطاردهم في الجلمة وعصيون وبيتح تكفا والمسكوبية، سجن النقب ينتفض وصلاح عبد ربه يعزف في المعسكر لحن الحرية : يا نقب كوني ارادة كوني سيفاً كوني درسا من دروس الانتفاضة أعدموه ولكن سجن نفحة يعلن الاضراب ويحطم الاسلاك الشائكة، صوت ابن المخيم محمد اللحام أبو خليل يصرخ: انا شعب، انا ثورة، انا لغم، انا عبوة، انا زيتونة خضراء، لن نركع، سجن عسقلان ينتفض ومحمد أبولبن يحاصر تل أبيب بنشيد الارادات الجامحة: سطر التاريخ قل يا عسقلان بلهيب الدم حدث يا زمان عن رجال عن جباه لا تهان لا حيينا ان رضينا بالهوان عسقلان عسقلان عسقلان. مئات المرات داهم جنود الاحتلال وعلى رأسهم ضابط المخابرات المدعو كريم بيت أبو ماجد ، وفي كل مره يعثر في الخابية على كتاب وابتسامة ، وفي كل مرة يقلب البيت رأسا على عقب ولا يجد سوى حلما طازجا تحت الوسادة، وفي احدى المرات عثر على رواية الجريمه والعقاب للكاتب ديستوفيسكي وعلى قصيدة لشاعر المخيم سميح فرج ، كلمات القصيدة وبطل الرواية صرخا في وجهه: يا رفاقي ان وريدي ذل يوما فاقطعوا مني الوريد ارتعب الضابط كريم وألقى بالقصيدة والرواية بعيدا وقال انها متفجرة. تل ابيب كانت غاضبة لانها فقدت السيطرة على مخيم الدهيشة، رغم الاعتقالات الكثيرة وكلما ابتسم المخيم عبست تل ابيب وكل مدن العالم ، لم يبق أحد في البيت، قالت تل ابيب، اعتقلنا جميع الاولاد، بما في ذلك الوالد ابو ماجد مع زميله ابو اكرم عطا الله للضغط عليهم لتسليم ابنائهم المطلوبين، شبحناهم تحت مزاريب المطر في المخيم في تلك الليلة الشتوية، احتجزناهم في “البصة” مقر الحكم العسكري في بيت لحم، كسرنا عظامهم ولم يعترفوا، الجميع صاروا في السجن بين الحيطان والحديد، لكن أين أمجد؟ هذا الشهيد الذي تعثر بالسجن والفقر والحلم والمرض، ارتقى مفتوح العينين ينظر بصمت الى البعيد. من هؤلاء النساء في المخيم؟ تتسائل هيئة الاركان الحربية في اسرائيل، نساء المخيم يهاجمن الجنود ويحررن أولادهن من قبضاتهم، نساء لبؤات لايخفن من الموت والرصاص، يخرجن الى الموجهة ثم يرجعن أحلى، مصابات او اسيرات او قتلى. النساء في المخيم قنابل، تقول هيئة الاركان الاسرئيلية، أمل زوجة ماجد صارت الاب والام، تربي الايتام وتزرع في قلوبهم صوت الزلازل ، كتيبة نساء المخيم تترصد بالجنود عند كل بوابة وحارة، أم خالد مزهر، ام نضال أبو عكر، أم جميل فراج، أم أحمد الجعفري، أم عيسى عبد ربه، ام أكرم عطا الله، أم سميح شاهين، أم عماد فرارجة، أم ماهر فرج ، رحمة القصاص، أم جودت مناع، فرحة رمضان، أم خليل البلعاوي، عائشة عبيد، معزوزة شاهين، نساء يربين الاطفال كي يتعلموا المشي السريع الى الشجر، ويحرروا حائط الصمت ويفتحوا الشوارع كي يمر الحجر. ما أكبر مخيم الدهيشة ، يقول مدير مصلحة سجون الاحتلال، أولاد الدهيشة يملأون كل السجون، المخيم أكثر من مخيم، الدهيشة جمهورية مستقلة، فشلت البوابات الالكترونية والسياج والحاخام ليفنغر من حشر المخيم ومنعه من الزحف على الرصيف وأبعد، فشل جهاز التربية في اسرائيل من تشويه عقول الطلبة في مدارس المخيم عندما عثروا على قصيدة محفورة في دفاترهم للشاعرعبد الناصر صالح: المجد للحجر المجد للسواعد التي تقاتل المجد للمخيمات والقرى المحررة وللمدائن التي غدت بيوتها معاقل المجد للمخيم الذي يستوقف مجنزرة ليست قنبلة، انه كيس فيه ربطة خبز وماء، عاد أبو ماجد الى المخيم شهيدا، اخترقت جسده أكثر من عشرة رصاصات، وظل مخيم الدهيشة يسافر خلف الجدار، يحلم بالصبح والعصيان، يوزع حياته على الوقت، وقت للموت وقت للحياة ووقت للغناء. في 10 نيسان عام 2002 التفى الشهيد ابو ماجد واولاده مع امهم “ام ماجد” على ينبوع العين في مقبرة الشهداء، كان وداعا غسل فيه المخيم جسده بالضوء وصوت الماء: انا لو تيتمت يا أبي رأيت ايامي امامي ورأيت بين اضلاعي قمراً يطل على ظلامي.