يجادل الباحثان الفلسطينيان عقل صلاح (الأسير المحرر) وكميل أبو حنيش (الأسير في السجون الإسرائيلية والمحكوم بتسعة مؤبدات) بأن إسرائيل، ورغم مرور سبعة عقود على تأسيسها، ما تزال دولة بلا هوية. يدعمان هذا الافتراض بحجج تاريخية وحقائق من الواقع تعكس صراعات على المستويين الداخلي والخارجي. وفي مسعاهما لإثبات هذا الافتراض يوطئان لبحثهما بتعريف عدد من المفاهيم المحورية مثل مفهوم الهوية، ومفهوم هوية الدولة، ومفهوم المواطنة، ويناقشان التناقض بين مركبات الهوية الإسرائيلية التي تشمل الصهيونية واليهودية والقومية والديمقراطية. يستعرض الباحثان أيضا بكثير من الاستفاضة النزاع بين التيارين الديني والعلماني في إسرائيل، والقوميات المختلفة التي تتكون منها هذه الدولة والانقسامات بينها. ويعالجان موضوع يهودية الدولة، والهدف الذي تسعى إليه إسرائيل من خلال تثبيت هذا الوصف لدولتها والآثار المترتبة على مثل هذا الاعتراف على الفلسطينيين داخل مناطق الخط الأخضر وفي مناطق ال67 المحتلة. ..اجتماع المتناقضات في الحديث عن التناقض بين مركبات الهوية الإسرائيلية يشير الباحثان إلى أزمة واضحة في الجمع بين الصهيونية واليهودية، إذ تعرف الأولى نفسها كحركة قومية مع ديباجات دينية، أما الثانية فترى نفسها ديانة تخص جماعة مقدسة قبلت ببعض الأطروحات الصهيونية في ما يتعلق بالهوية القومية، وهو مزج غريب، بحسب الباحثان، يزعزع القومية اليهودية المزعومة من جانب، ويضرب الأسس الدينية المأزومة أصلا من جانب آخر، وهو ما فتح الباب واسعا على بروز هويات هجينة أخرى مثل الصهيونية الدينية. وفي هذا السياق يوضحان أن ظهور الصهيونية كحركة علمانية قومية أحدث هزة عميقة في أوساط يهود أوروبا على وجه الخصوص، إذ ضربت أهم معتقدات اليهودية وهو المعتقد الخلاصي المشيحاني الذي يرى أن الدولة اليهودية لن تقوم إلا على أيدي المشيح المنتظر، وليس على أيد بشرية لا تؤمن أصلا بالمعتقدات الدينية اليهودية. لكنهما يلفتان إلى أن الصهيونية، رغم علمانيتها، وبحلولها محل المسيح شكلت رؤية مشيحانية ولكن برداء علماني. فالمشروع الصهيوني ولد من قلب هذه الرؤية داخل تيارات مسيحية غربية أولا، ومن قلب الرؤية الاستعمارية الأوروبية ثانيا. حيث يعد المركب الاستعماري جزءا مهما من الفكر والممارسة الصهيونيين. إنها مجرد حركة استعمارية تتبنى الخطاب والديباجة اليهودية، وهو ما يضرب أهم مزاعمها بأنها حركة تحرر وطني، ويجعل منها مجرد أداة وظيفية لخدمة المشاريع الاستعمارية العالمية. الصراع يدور حول هوية الدولة ما بين الهوية القومية العلمانية الحداثية بملامح ديمقراطية في العلاقة مع الداخل، وبين دولة دينية تحكمها الشريعة اليهودية منهية بذلك الطابع العلماني الغربي للدولة، وهو ما يقوض في النهاية المزاعم الصهيونية حول تلازم اليهودية والديمقراطية. على جانب آخر فإن فتح باب الهجرة أمام الجماعات اليهودية المختلفة إلى إسرائيل، والتي لم تكن الصهيونية إنما اليهودية هي المحرك الأساس لها، عقّد من إمكان تحقيق ما تسعى إليه الدولة من صهر الجميع في بوتقة قومية واحدة، رغم محاولاتها توحيد هذه الجماعات عبر استخدام اللغة العبرية وفرض الخدمة العسكرية، فقد ظلت الهوة الثقافية والسياسية والاجتماعية كبيرة بين هؤلاء المهاجرين بعضهم البعض، وبينهم وبين الإشكناز المؤسسين للدولة. وهؤلاء المؤسسون كانوا قد عملوا منذ البداية على بناء نظام إثني قائم على تفضيل مصالحهم الخاصة وليس نظاما ديمقراطيا يعطي الأولوية للمصالح المدنية. لكن الدولة وفي إطار سعيها لحل هذه المعضلة اكتشفت عاملا موحدا لهذه الجماعات المتنافرة تمثل في ترسيخ ثقافة الخوف والقلق من عدو شرس يتربص بإسرائيل هو العرب وإيران. يتابع الباحثان أن محاولة الجمع بين يهودية الدولة وديمقراطيتها في إطار قومي يهودي جعلت من إسرائيل دولة لا هي صهيونية فعلا، ولا هي يهودية أو ديمقراطية كذلك، إنها دولة بلا هوية. وعدا عن ذلك فإن هذه الدولة لا تزال في حالة التباس بين كونها دولة دينية وحديثة وبين كونها دولة يهودية وعلمانية، وبين كونها دولة ديمقراطية أو دولة لبعض سكانها اليهود. كما أنها لم تحدد حدودها الديمغرافية والجغرافية بعد. ويتساءل الباحثان: هل هي جزء من المنطقة العربية، أم هي امتداد للغرب في المنطقة؟ وهل هي دولة عادية أم وظيفية؟ أم دولة ما تزال تعيش في الأسطورة وفوق قوانين الزمان والمكان؟. يلفت صلاح وأبو حنيش في كتابهما إلى أن الدولة العبرية شهدت منذ إقامتها تصاعدا في حدة الصراع ما بين المعسكرين العلماني والديني تحت عناوين كثيرة، مثل انتهاك حرمة السبت، والخدمة العسكرية وغيرها من المسائل التي تعتبر التيارات الدينية المساس بها نسفا للمعتقد اليهودي.وأن مسألة العلاقة بين الدين والدولة ستظل تعزز صراعات تختلف وتيرتها من حين إلى آخر، لكنها تبقى مصدر صدام يصعب حسمه، وتؤثر في مجرى الحياة اليومية في إسرائيل. ويقولان إن هذه العلاقة المتوترة بين الدين والدولة تعبر عن القدرات التي راكمتها الأحزاب الدينية في العقود الأخيرة، وأهمها على الإطلاق قدرتها على ابتزاز الحكومات والتأثير في قرارات الدولة، وهو ما يترك الحكومات الإسرائيلية رهينة لهذه الأحزاب التي باتت عصرا ثابتا في تشكيلها. ويضيفان بأن الجدل حول مسألة الهوية يتضاعف بين أوساط المدنيين والعلمانيين محدثا تصدعا بنيويا في المجتمع الإسرائيلي، الذي يفتح بابا أمام التساؤلات حول إمكان تلازم اليهودية كدين والديمقراطية كممارسة في إسرائيل، وإلى أي مدى يمكن اعتبار اليهودية مجرد دين أم هي جامعة للدين والقومية معا. إن الصراع يدور حول هوية الدولة ما بين الهوية القومية العلمانية الحداثية بملامح ديمقراطية في العلاقة مع الداخل، وبين دولة دينية تحكمها الشريعة اليهودية منهية بذلك الطابع العلماني الغربي للدولة، وهو ما يقوض في النهاية المزاعم الصهيونية حول تلازم اليهودية والديمقراطية. ..إشكناز وشرقيون تحت عنوان "الصدع الإثني" يناقش الباحثان حالة الانقسام الإثني في إسرائيل التي تعززت في العقود الأخيرة، حيث يتركز هذا الانقسام بشكل أساسي بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين. ويوضحان أن سعي النخبة الاشكنازية (الغربية) للهيمنة على مؤسسات الدولة جعلها تبتكر سلسلة طويلة من الآليات التي تضمن الفصل ليس فقط بين اليهود والعرب إنما أيضا بين مختلف الطبقات الإثنية اليهودية، تضمنت رسم حدود الحكومات المحلية والمناطق التعليمية وعمليات توزيع الخدمات المنفصلة وغير المتساوية، خصوصا في مجالي التعليم والإسكان، لتطوير الأطر الاقتصادية المنفصلة بعضها عن بعض. سياسة أنتجت مجتمعات إسرائيلية لا مجتمع واحد، ومحكومة لواقعها الإثني والطبقي الصارم، الذي كرسته الدولة منذ الأيام الأولى لإقامتها. وهو ما ولد مشاعر الغبن والاضطهاد لدى المجموعات الشرقية تحديدا، التي انشئت لها بلدات ومدن التطوير البعيدة والفقيرة الخدمات المحاذية للحدود. وقد تم حصر تلك الأراضي بالحركات الاستيطانية بهدف إضعاف السيطرة العربية إلى أقصى حد، لكن من جهة أخرى فقد عمقت هذه السياسة الفجوة بين الاشكنازيين المؤسسين والمهاجرين المزراحيين الشرقيين، وساهمت مع الوقت بتنامي الشعور بالاغتراب وتبلور الهوية الشرقية. عبر العديد من المهاجرين بصورة معاكسة عن اغترابهم في هذه الدولة، وعدم شعورهم بالانتماء إليها، وعدم رغبتهم أيضا بالولاء لها، وأنهم لا يزالون يشعرون بالانتماء والولاء لبلدانهم الأم، حيث تشير التقديرات إلى أن مئات الألوف من الإسرائيليين عادوا إلى أوطانهم الأصلية ولم يهاجروا ثانية إلى إسرائيل. تنسحب هذه الحالة من عدم المساواة على الشأن السياسي، فتمثيل اليهود الشرقيين في الحكومة والكنيست لا يعكس وزنهم الحقيقي الحالي. فمنذ تأسيس إسرائيل كان معظم السكان اليهود من الأوروبيين والأشكناز(92%) مقابل (8%) فقط من الآسيويين والأفارقة، ومع الوقت مالت النسبة لصالح الشرقيين، وقبل هجرة الروس كان 41.5% من السكان اليهود من أصل شرقي، و36% من أصل أشكنازي، إلا أن الأشكناز ما زالوا هم المسيطرين على مفاصل الدولة. يؤكد الباحثان أن أطروحتهما لا تعني بالضرورة أن إسرائيل لم تنجح في بلورة هوية للمستوطنين المهاجرين، بالرغم مما يعتري هذه الهوية من تناقضات وتشوهات، لكنهما أرادا من خلالها إبراز الخلل الواضح في مركبات هذه الهوية، وهو أمر يعتقدان أنه يسمح بإضعاف الدولة على المدى البعيد واستبدال هويتها بهوية أخرى نتيجة لجدلية الصراع القائم بين مجموعة من الهويات التي تتنازع على تشكيل هوية الدولة. ويشيران في الوقت ذاته إلى التساؤلات التي باتت تطرحها الدراسات الإسرائيلية الحديثة ووسائل الإعلام حول الفارق بين إسرائيل وبين أي تجمع يهودي آخر في العالم في ضوء التعددية الثقافية والإثنية في إسرائيل، فالهجرات المعاكسة وانشداد الكثير من الإسرائيليين للحياة في مجتمعات ودول أخرى لأسباب مختلفة، اقتصادية، وثقافية، ونفسية، وغير ذلك، قد يفسر وجها آخر من وجوه هذه الأزمة، وقد يشكل انعكاسا لجملة من التناقضات الهوياتية. فقد عبر العديد من المهاجرين بصورة معاكسة عن اغترابهم في هذه الدولة، وعدم شعورهم بالانتماء إليها، وعدم رغبتهم أيضا بالولاء لها، وأنهم لا يزالون يشعرون بالانتماء والولاء لبلدانهم الأم، حيث تشير التقديرات إلى أن مئات الألوف من الإسرائيليين عادوا إلى أوطانهم الأصلية ولم يهاجروا ثانية إلى إسرائيل. يتابع الباحثان أن إمكان تفسخ إسرائيل من الداخل على أساس هوياتي أمر وارد، غير أنه لا يكفي القول إن بقاءها أو عدم بقائها مرهون بهذا العامل، وإنما محكوم بجملة من العوامل الداخلية والخارجية وقد تكون مسألة الهوية أحد هذه العوامل التي من شأنها أن تمثل عائقا أمام تطور الدولة.