ماذا ستكون أجوبتنا إذا ما طرحنا السؤال: كيف مآل الشعب الأندلسي بعد أن سقطت الأندلس؟ أعتقد أنها لن تختلف كثيرا عن تصوير شعب يرحّل إلى شمال أفريقيا فيسهم في ازدهار صناعتها وفلاحتها وعن صورة أبي عبد الله محمد الثاني عشر آخر ملوك الأندلس المسلمين، وهو على ربوة يودّع مملكة غرناطة وأمه توبخه قائلة، في مشهد اصطنعه الأسقف أنطونيو جيفارا: "ابك كالنساء ملكا لم تحافظ عليه كالرجال"، وعن ستار يسدل عن مجد أسسته الدولة الأموية هناك أشبه بنهاية عرض مسرحي حزين. ولكننا إذا ما تأملنا أجوبتنا التلقائية لاحقا، فسنصدم لهول السذاجة التي تشتمل عليها. فهذا السيناريو يختزل نهاية دولة بأسرها في مأساة رجل وحيد ذليل. ولا شك أنّ الحقيقة التاريخية لم تكن بهذه البساطة. فما نقدّر أنه النهاية، لم يكن غير بداية إبادة لشعب الأندلس، الذي ظل يعيش في ظلّ الحكم النصراني. وهذا ما شكل مأساة منسية، وفجوة تعمّد المؤرخون إحداثها في نسيج سردهم التاريخي، أما أثر "الدين والدم إبادة شعب الأندلس" (Blood and Faith) للباحث البريطاني ماثيو كار الصادر في 1955 الذي عربه مصطفى محمد عبد الله قاسم 2013، فيحاول أن يختزل هذه الفجوة من خلال تسليط الضوء على تاريخ الأندلسيين ما بعد سقوط دولتهم. 1 الحرب الصليبية تعصف بالتسامح الديني الإيبيري عدّ التسامح الديني في إيبيريا، شبه الجزيرة الأندلسية، من الاستثناءات الجميلة التي ربطت بين منتسبي الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية. فكانت تسلم بقبول بعضها بعضا، ضمن حرية دينية مقيدة وتعايش مشروط وفق الباحث، بحيث لم يكن اتّباع الدين الإسلامي يفرض على الناس قسريا. وبالمقابل، لم يكن مسموحا لليهود أو النصارى بالترويج لدينهم لضم اتباع جدد. ولكنّ حمى الحملات الصليبية التي استهدفت العالم الإسلامي عصفت بهذا التعايش السلمي. ولنا في عرض خطبة البابا أوربان الثاني خير مثال. فغير بعيد عن الديار الأندلسية وفي المجمع الديني المنعقد في كليرمونت بفرنسا عام 488ه 1095م، وقف خطيبا صائحا في الناس: "يا شعب الفرنجة، يا شعب الله المحبوب المختار، لقد جاءت من تخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية أنباء محزنة تعلن أن جنسا لعينا أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد، بلاد المسيحيين في الشرق، قلب موائد القرابين المقدسة، ونهب الكنائس وخربها وأحرقها، وساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم، وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع تعذيب، ودنسوا الأماكن المقدسة برجسهم، وقطعوا أوصال الإمبراطورية البيزنطية، وانتزعوا منها أقاليم بلغ من سعتها أن المسافر فيها لا يستطيع اجتيازها في شهرين كاملين. طهروا قلوبكم إذن من أدران الحقد، واقضوا على ما بينكم من نزاع واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث وتملكوها أنتم، إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، هي فردوس المباهج. إن المدينة العظمى القائمة في وسط العالم، تستغيث بكم أن هبوا لإنقاذها، فقوموا بهذه الرحلة راغبين متحمسين تتخلصوا من ذنوبكم، وثقوا بأنكم ستنالون من أجل ذلك مجدا لا يفنى في ملكوت السماوات". وكانت صيحته تبعات جمّة على ما كان يعرف بالتسامح الديني الإيبيري. 2 ما بعد الحرب الصليبية.. تأجيج خطاب الكراهية لم يشعل مثل هذا الخطاب سلسلة من الحروب الصليبية التي امتدت لنحو قرنين من الزمن فحسب، وإنما خلّف ارتدادات خطيرة على العلاقات بين منتسبي الدينين المسيحي والإسلامي. فلم يكن النصارى ينظرون إلى الإسلام باعتباره دينا، وإنما بصفته نحلة ضالة وفيروسا مهلكا أو مهينا للرب. وكانوا يرون في المسلمين عرقا ملعونا وكفارا فاسقين وبرابرة دون مرتبة البشر. ووصفوهم بكونهم وحوشا لها رؤوس كلاب لا تستحق الحياة. يقول توما الأكويني (1225 1274) الرّاهب الدومينيكي بالكنيسة الرومانية والفيلسوف وأحد معلمي الكنيسة الثلاثة والثلاثين عنهم: "[المسلمون] أناس غير عقلاء، تنقصهم الدربة في الأمور الإلهية، فهم أقرب إلى البهائم، وهم يقطنون البراري ويجهلون كلية كلّ التعاليم الإلهية". وانتشرت في إسبانيا النصرانية الإشارات التهجينية المشابهة نحو "الساراكينوس الهاجرين"، ويقصد بها [الأحفاد اللقطاء للمحظية هاجر كما تمت الإشارة إليها في التوراة] و"أتباع محمد الأقذار" و"أعداء الرب". وتحولت صورة المسلم عندهم؛ فغدا "عدوانيا" أو "مخادعا" أو "غير قادر على السيطرة على شهواته الجنسية". ويختزل سانشو الرابع القشتالي هذا الانقلاب بقوله: "كان الأندلسيون مجرد كلاب.. فتلك الأشياء التي يعتبرها النصارى شريرة وآثمة ،يعتبرونها هم جيدة ومفيدة، والتي نعتبرها مفيدة للخلاص يعتبرونها هم آثمة". 3 الكراهية والكراهية المضادة من الطبيعي أن يكون لكل فعل ردة فعل مضادة من جنسه. فقد صنعت إسبانيا الإسلامية مفردات كراهيتها بدورها. فنعتت الإسباني النصراني بعدوّ الله أو الخنزير، وأشير إلى المسيحيين بالفرنجة منعدمي الثقافة، حتى إنّ الجغرافي الأندلسي إبراهيم بن يعقوب وصف الجيليقيين (نسبة إلى جيلقية شمال غرب إسبانيا) أنهم "غادرون وأقذار ولا يستحمون إلا مرة أو مرتين في العام وبالماء البارد. ولا يغسلون ملابسهم إلى أن تبلى؛ لأنهم يزعمون أنّ الأوساخ التي تتراكم نتيجة لعرقهم ترقق أجسامهم". ومع ذلك، لا يخفي الباحث إعجابه بالصورة الإيجابية التي ترسمها القصائد النصرانية للمحاربين الأندلسيين. فقد كانت تخرجهم في صورة النبيل والفارس الأرستقراطي، ولم تكن تخلو من إجلال وإعجاب. والأمر نفسه يمكن أن ينسحب على الشعراء الترابارديين؛ أي الشعراء الموسيقيين جنوبفرنسا وشمال إيطاليا. فكثيرا ما تغنوا بجمال الأندلسيات سواء كنّ أميرات محجبات أو عاميات. وكثيرا ما أبدى القادة النصرانيون الإعجاب بالحضارة الإسلامية، شأن فيرناند الثالث القشتالي الذي صاح عام 1248 مبهرا بإشبيلية "لا توجد مدينة في العالم بهذا التناسق والتناغم". 4 حروب الاستنزاف وسقوط غرناطة رغم بريق الضوء الذي أشار إليه ماثيو كار، تفاقم هذا العداء المتبادل وانتهى إلى حروب الاستنزاف التي سبقت سقوط غرناطة. فقد استهدفت تطهير "إسبانيا المقدسة" من اليهود والمورسكيين". والتسمية لا تخلو من تهجين، فهي تعني "الأندلسيين الصغار". واستمرت زهاء عقد من الزمن. فقد شارك فيها نحو ستين ألف فارس وجندي من المشاة عملوا على محاصرة المدينة، فأحرقوا المحاصيل ودمروا الزراعات حتى جعل الجوع أهلها يأكلون الخيول والكلاب.. ولمّا استحال الصّمود أكثر، وقّع ملكها أبو عبد الله محمد الثاني عشر ميثاق الاستسلام في تشرين الثاني/نوفمبر 1941 مقابل ضمان احترام ثقافة الأندلسيين وحريتهم الدينية والحفاظ على ممتلكاتهم. فيصرّح نصه ب" [سماح صاحبي السمو] وخلفائهما للملك أبي عبد الله [أي عبيدل] وقادته، والقضاة والمفتيين، والقادة العسكريين، وعلية القوم وعامتهم كبيرهم وصغيرهم، بأن يعيشوا دائما وفق شريعتهم دون المساس بسكناهم وجوامعهم ومناراتهم، ولن يتدخلا في أوقافهم التي أوقفوها لتلك الأغراض، ولن يعيقا عاداتهم وتقاليدهم في غير حين". ويفرض " على القضاة والعمد والحكام المعينين لحكم غرناطة، يجب أن يتوفر فيهم شرط احترامهم للأندلسيين ومعاملتهم بالحسنى واحترام معتقداتهم الدينية". 5 نقض العهد ل"تطهير" إسبانيا من غير النصرانيين ما إن استتب الأمر للنصرانيين، حتى عملوا على "تطهير" البلاد من اليهود "قتلة المسيح" الذين كانوا يحتمون بالمسلمين في الأندلس، ثم عمل رجل الدين المتعصّب ثيسنيروي، رئيس أساقفة غرناطة عام 1499 على إرغامهم على التخلي عن دينهم واعتناق المسيحية بالقوة والقهر. وكان حامد الثغري الذي مثل أنموذجا في الاستبسال دفاعا عن الممالك الإسلامية أول ضحاياه. فأجبره تحت التعذيب على إعلان نصرانيته وتخليه عن الإسلام. وأقيمت محاكم تفتيش في قشتالة بهدف الكشف عن [الزنادقة المرتدين عن دين موسى وإن تظاهروا بغير ذلك]. وظل نحو نصف مليون أندلسي (من سبعة أو ثمانية ملايين نسمة) يعيشون في الريف ويشتغلون بالزراعة والأعمال المتواضعة، خاصة بعد هجرة الأعيان والمثقفين. فتعرضوا للميز والعنف واتخذوا من جبال البشرات التي تمثل حاجزا طبيعيا ملاذا. وهناك عمدوا إلى الانتقام من السكان النصارى المحليين وخاصة رجال الدين. فأشعلوا ثورة تطلبت من السلطات حشد ثمانين ألف جندي لسحقها. وبالنظر إلى التفاوت الرهيب في موازين القوى، انهارت القرى وتم تنصير البعض وتعميدهم في أجواء احتفالية. ففي قشتالة خيرت الملكة المسلمين بين اعتناق الدين المسيحي والنفي عن البلاد على ألا يأخذوا معهم الذهب أو الفضة أو السلع الأساسية، وعلى أن يركبوا البحر وألاّ يسافروا عبر المسالك البرية، وألا يصطحبوا معهم أبناءهم دون الرابعة عشرة وبناتهم دون الثانية عشرة. وحاول بعضهم الجمع بين الديانتين، فيكون نصرانيا في الخارج ومسلما في المنزل. ولكنهم وقعوا تحت طائلة محاكم التفتيش التي وُظّفت لاجتثاث كل ما هو أندلسي من لغة وموسيقى ورقص وعادات الزواج ودفن للموتى. ومن سخف حرب التطهير هذه، أن عقدت المحاكمات بسبب ضبط أحدهم يستحم أو يغسل الرأس أو بسبب رصد غسل "لأعضاء الجسم المخزية"، فقد كانت جميعها تمثّل عملية التطهر استعدادا للصلاة. وكان المتهم يحتجز لسنوات قبل البتّ في قضيته. ويواجه ألوانا من التعذيب كالمخلعة والإغراق الكاذب والتعليق في السقف والأذرع إلى الخلف، وربط أثقال بأقدام المعذّب والتكبيل بالحديد.. إلى غير ذلك. ورغم كل هذا التضييق، جدّت أحداث بطولية تحدّى فيها الأندلسيون هذه التضييقات دفاعا عن هويتهم الدينية والثقافية. 6 الدين والدم اليوم يطرح الباحث السؤال: "إلى أي حد تصالحت إسبانيا مع ماضيها الإسلامي؟" ويجد أن الموضوع يظل مجال جدل واختلاف. ولكنه يقف عند أحداث دالة تختزل الذهنية الإسبانية اليوم. فقد عمل فرانكو على إبراز تراث إسبانيا الأندلسي لجذب السياح في الستينيات، ولفك العزلة السياسية والاقتصادية المفروضة عليه. ثم أقرّ أول دستور لإسبانيا بعده التعددية الدينية سنة 1978، وتحولت البلاد إلى مقصد للمهاجرين المسلمين، حتى إنّ عددهم بات يقدّر اليوم بنحو مليون شخص. ووقعت الحكومة سلسلة من الاتفاقيات مع المنظمات الإسلامية. وأمكن للمسلمين المحليين عام 2003 بناء مسجد جديد في البيازين بغرناطة قبالة قلعة قصر الحمراء، بعد حملة دامت نحو عقدين وحرصت الحكومة الاشتراكية على عدم الوقوع في سياسة صدام الحضارات بعد تفجيرات مدريد 2006. ولكن هل يعني ذلك طي صفحة الصدام القديم؟ لا يعتقد الكاتب ذلك. فبعض الحوادث تظل تذكر بالماضي المؤلم أو تحن إليه: ففي عام 1982 سنت الحكومة الإسبانية قانونا يمنح الجنسية لأحفاد اليهود الذين طردوا عام 1492 ولم يمنح هذا الحق لأحفاد الموريسكيين. وفي عام 2001 يصرح وزير الهجرة الإسباني انريكو ميرندا بأن اندماج المهاجرين في المجتمع الإسباني، سيكون أيسر في حالة ما اعتنقوا الكاثوليكية. وفي عام 2003 وزعت على الجنود الإسبان والأمريكيين اللاتينيين الذين شاركوا في غزو العراق صلبان القديس جيمس قاطع رقاب الأندلسيين. وفي عام 2005 كان مقرّرا أن يزور الملك خوان كارلوس مدينة تطوان المغربية. ولمّا طالب فيها أحفاد الموريسكيين من سكّانها باعتذار رسمي، ألغيت الزيارة بصفة مفاجئة ودون تبرير. ف "ذلك كلّه يكشف عن أنّ إسبانيا لم تتصالح مع ماضيها الإسلامي، أو حتى حاضرها. صحيح أنّ معاداة المسلمين في إسبانيا ليست باتساعها في بعض البلدان الأوروبية، لكنها لا تزال تكشف عن نفسها في الحملات المعارضة لبناء المساجد، من نوع المعارضة الشديدة لبناء الجامع الكبير للبيازين بغرناطة. كما أبدت الكنيسة الكاثوليكية، التي تآكل عدد رعيتها وفقدت مكانتها المهيمنة في المجتمع الإسباني قلقا متزايدا من الوجود الإسلامي".