في الصّحيح عن جابر ، قال: لما حضر أُحدٌ دعاني أبي من الليل.. فقال: «ما أراني إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك، غير نفس رسول الله ، فإنّ عَلَيّ دَيْنًا فاقضِ، واستوصِ بأخواتِك خيرًا»، فأصبحنا، فكان أوّل قتيل ودفن معه آخر في قبر، ثم لم تطِب نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته» . هذا ما حكاه جابر عن أبيه الصحابي الجليل عبدالله بن عمرو بن حرام الخزرجي الأنصاري م، أحد النقباء. والصحابي الذي دفن معه هو عمرو بن الجموح ، لِما كان بينهما من الصحبة، وكان صديق والد جابر وزوج أخته هند بنت عمرو ن أجمعين. أقول: لقد قلّبت هذا الحديث مرات ومرات، وحاولت أن أدخل في جوّه علّني أحسّ بما أحسّ به جابر بن عبدالله م حين أخرج أباه فرآه كما هو بعد ستة أشهر من الفراق. أيّ مشاعر حزن تجدّدت، وأيّ لوعة فراق زاد اشتعالها. إنّه منظر عزيز مهيب.. أن ترى أباك ميتًّا في قبره بعد ستة أشهر، تراه جثة هامدة لا روح فيها.. بعد أن عاشَ دهرًا من حياته يغضب ويهدأ، يضحك ويبكي، يفرح ويحزن، يقسو ويعطف.. توفي عبدالله والد جابر -رضي الله عنهما- في معركة أُحد، وكان عُمر جابر حينها قرابة العشرين عامًا، تاركًا له تسع من البنات الأخوات.. استشهد عبدالله في معركة أُحد على خير قِتْلة، وكان به جراح وإصابات بالغة، يقول جابر كما في صحيح البخاري: «جيء بأبي يوم أحد قد مثل به، حتى وضع بين يدي رسول الله وقد سُجي ثوبًا، فذهبت أريد أن أكشف عنه، فنهاني قومي، ثم ذهبت أكشف عنه، فنهاني قومي» .. وقد بانَ على جابر التأثّر يومها.. إضافة إلى الهمّ الثقيل الّذي خلّفه له من دَين وعيال.. وهو همّ لزمه أيامًا وليال طويلة.. في أحد الأيّام رأى النّبيّ ما بجابر من حزن فأراد أن يسلّيه، قال جابر: لقيني رسول الله ، فقال لي: «يا جابر ما لي أراك منكسرًا»؟ قلت: يا رسول الله استشهد أبي، وترك عيالا ودَينا، قال: «أفلا أبشّرك بما لقي الله به أباك»؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: «ما كلّم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحًا، فقال: «يا عبدي تمنّ علَيّ أُعطِك»، قال: «يا رب تحييني فأُقتل فيك ثانية»، قال الرب عز وجل: «إنه قد سبق مِنّي أنهم إليها لا يرجعون»، قال: وأنزلت هذه الآية: «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا». أخرجه الترمذي وحسنه. وقد كان الله تعالى معينًا لجابر في همّه، إذ اشتدّ الغرماء في حقوقهم وأبوا أن يتنازلوا عن شيء منه، قال جابر : فأتيت رسول الله فكلمته، فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي، ويحلّلوا أبي، فأبَوا، فلم يعطهم رسول الله حائطي ولم يكسره لهم، ولكن قال: «سأغدو عليك إن شاء الله»، فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل ودعا في ثمره بالبركة، فجدَدْتُها فقضيتهم حقوقهم، وبقي لنا من ثمرها بقية، ثم جئت رسول الله وهو جالس، فأخبرته بذلك، فقال رسول الله لِعُمَر: «اسمع»، وهو جالس، «يا عمر»، فقال : «ألا يكون؟ قد علمنا أنك رسول الله والله، إنك لرسول الله!». أخرجه البخاري. بقيت الآن الداهية الدهياء، تسع من البنات مع شاب يافع لا خبرة له ولا سبق في التربية فضلًا عن البنات، فكيف يقوم على أمرهن؟ إضافة إلى مشاغله خارج البيت!. قال جابر : قال لي رسول الله : «هل نكحت يا جابر؟». قلت: نعم!. قال : «ماذا أبِكْراَ أم ثيّبا؟». قلت: لا بل ثيبًا!. قال : «فهلّا جارية تلاعبك!». قلت: يا رسول الله، إن أبي قتل يوم أحد، وترك تسع بنات، كن لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تمشطهن وتقوم عليهن. قال : «أصبتََ!».
نعم أصاب ا، فكان على قدر المسؤولية الّتي تركها له أبوه، ولم يجعل رغباته الشخصية تطغى على مسؤوليّاته، فتنازل فيها لتحقيق أكبر قدر من التوازن بين مصلحة النفس وحاجتها والمسؤولية تجاه من كُلّف بحمل همّه. عدة شهور وجابر ا يكابد لوعة الفراق وألم الغياب، غياب الوالد، الذي يبدو أنّه كان لجابر أكثر من أب، نلاحظ هذا من كون جابر على صغر سِنِّه اصطحبه أبوه إلى لقاء مهم، خلّده التاريخ وخلّد أسماء أصحابه، ألا وهو بيعة العقبة الثانية.. وهذا يعني أنّ عبدالله بن حرام ا وهو الذي رزق من البنات تسعًا ولم يُرزق من الذكور إلاّ جابر، كان مهتما بهذا الولد اهتماما زائدًا يحضره معه في كلّ مشهد ويقرّبه في كلّ مجلس.. ستة أشهر لم تبرد فيها جمرة الحب في قلب جابر ا.. فذهب ليخرج أباه ويفرده في قبر وحده، وهنا كانت المفاجأة ، إذ رآه كما هو لم يتغير منه شيء.. وكأن هوام الأرض وترابها ما زال مترددا متهيبًا أن يعدو على هذه الأجساد الطيبة الّتي كانت مركبا للأرواح الطيبة.. أرواحا طالما طيبها القرآن والسنة والعبادة والذكر والجهاد والإنفاق..
وَجَده كما هو لم يتغير إلاّ شيئا يسيرًا من أذنه..
هذه كرامة الله تعالى للشهداء.. وقد جاء في خبرهم ما يسيل مدامع العين، قال جابرا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج لدفن شهداء أُحد قال: «زملوهم بجراحهم فإني أنا الشهيد عليهم. ما من مسلم يُكْلَمُ في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة يسيل دمًا، اللون لون الزعفران، والريح ريح المسك!». قال جابر: وكُفن أبي في نَمِرَةٍ واحدة، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أيُّ هؤلاء كان أكثر أخذًا للقرآن؟»، فإذا أشير له إلى الرجل قال: «قدّموه في اللحد قبل صاحبه!». قالوا: وكان عبد الله بن عمرو بن حرام أول قتيل قتل من المسلمين يوم أُحد، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهزيمة، وقال رسول الله : «ادفنوا عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من الصفاء!». وقال:« ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد!». فدُفنا في قبر واحد. وكان قبرهما مما يلي المسيل، فدخله السيل، فحفر عنهما وعليهما نمرتان، وعبد الله قد أصابه جرح في وجهه فيده على جرحه فأميطت يده عن جرحه فانبعث الدم، فردت يده إلى مكانها فسكن الدم!!. قال جابر:« فرأيت أبي في حفرته كأنه نائم وما تغير من حاله قليل ولا كثير!!». فقيل له: فرأيت أكفانه؟ قال: إنما كفن في نمرة خُمّرَ بها وجهه، وجعل على رجليه الحرمل، فوجدنا النمرة كما هي والحرمل على رجليه على هيئته، وبين ذلك ست وأربعون سنة!!». وفي رواية : «فأخرجناهما يتثنيان تثنيًا كأنهما دفنا بالأمس!!». قال ابن حجر –رحمه الله- بعد أن ذكر حديث جابر: وهذا يخالف في الظاهر ما وقع في «الموطأ» عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة: «أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين كانا قد حفر السيل قبرهما، وكانا في قبرٍ واحد، فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما، فوجدا لم يتغيرا، كأنهما ماتا بالأمس، وكان بين أُحد ويوم حُفر عنهما ست وأربعون سنة!!»، وقد جمع بينهما الإمام ابن عبد البر بتعدد القصة، وفيه نظر؛ لأن الذي في حديث جابر أنه دفن أباه في قبر وحده بعد ستة أشهر، وفي حديث «الموطأ» أنهما وجدا في قبر واحد بعد ست وأربعين سنة، فإما أن يكون المراد بكونهما في قبر واحد قرب المجاورة، أو أن السيل خرق أحد القبرين فصارا كقبر واحد. «الفتح» (3/217). إلى هنا انتهى حديثنا عن جابر وأبيه رضي الله عنهما وأرضاهما ورزقنا حبّهم وحبّ الدين الذي عاشوا عليه وماتوا لأجله وحشرنا في زرمتهم خير زمرة.. وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا.