لا تتحرك السلطة لحل المشاكل إلا عندما تشعر بخطر يهددها، وإذا تحركت، فإنها تشتري المشاكل ولا تحلها، مما يعني أنها تهوى الحلول الظرفية والترقيعية. وهذا السلوك الذي تعتمده السلطات العمومية في التعاطي مع الشأن العام، تجسد في أكثر من أزمة اجتماعية أو سياسية عرفتها الجزائر في العشريات الماضية وآخرها احتجاج البطالين في ولايات الجنوب. لقد ترسّخ تجاهل مؤسسات الدولة على كثرتها لنداءات المواطنين، وثبت في أكثر من مناسبة أنها تترك جبال المشاكل تتراكم وتتعفن ولا يأتي تدخلها إلا بعد فوات الأوان، حيث تتحول الإجراءات المتخذة تحت التسرع والضغط إلى جزء من المشكلة وليس الحل، مما أنتج قنابل اجتماعية تنفجر كل حين وعلى نحو يهدد ركائز الدولة ووحدة المجتمع. تفضّل الشعبوية والحلول الترقيعية وتدير ظهرها دوما لعلاج المشاكل من جذورها متى تقول السلطة للحقرة ''بركات'' ما زالت السلطة تردّ على مطالب المواطنين وانشغالاتهم التي يضطرون للخروج بها إلى الشارع، لإيصالها إلى آذان المسؤولين، مثلما ردت على أحداث 5 أكتوبر 88 منذ 25 سنة خلت، بأنها ''شغب أطفال''. هذا الوضع يعني أن مؤسسات الدولة من رئاسة وحكومة وبرلمان، ليس بمقدورها أن تقول ل ''الحفرة بركات''. لم تخل أي حركة احتجاجية أو تظاهرة سلمية أو اعتصام، مهما كانت الجبهة الداعية إليه ومشروعية المطالب المرفوعة، إلا وقوبلت بتسخير قوات الشرطة لمحاصرتها ومنعها، وهو سلوك يعني أن السلطة تلجأ للحل الأمنى حتى لا تعالج هذه الأزمات من جذورها. وهذه المعالجة لم تكن خاطئة فحسب، بل أفقدت كل مؤسسات الدولة مصداقيتها، وكان آخرها ما طرحه البطالون في الجنوب، الذين قالوا أنهم لن يتفاوضوا إلا مع من يملك ''سلطة القرار'' وليس مع الوزير الأول، وفي ذلك أكثر من رسالة أن مؤسسات الدولة برمّتها تحوّلت في أعين رجل الشارع إلى مجرد ''خضرة فوق عشاء''. في المقابل تكشف ردود فعل السلطات حول قضية أبناء الجنوب وغيرها، أن الشعبوية والحلول الترقيعية والاتهامات المفبركة والمجانية، ما زالت سلوك معتمد في أعلى هرم الدولة في التعاطي مع مطالب أبناء الشعب. وإذا كان فاروق قسنطيني يعتبر ذلك دليل على أن الدولة ''تشتري المشاكل ولا تحلها''، فإن خبراء البنك الدولي يرون فيها عجز السلطة عن بناء اقتصاد مبنى على ''المعرفة'' يكون بديل للبترول في الجزائر. وسبب ذلك ليس لكون الجزائر لا تملك الكفاءات التي تنتج الذهب الرمادي، ولكن لأن السلطة التي تكره الحرية وتنبذ الشفافية وتتحايل على الديمقراطية وتغلق مجالات الحرية لابد أن يكون رأسها ''يابس'' لا يسمح بوجود لا الرأي الآخر ولا بتغيير النظام الريعي باقتصاد المعرفة. وهذا الاعوجاج سيظل قائما وستبقى معه ثقة الشعب مفقودة لأن السلطة التي تتعامل مع آكلي أموال الشعب من داخل صفوفها بمنطق ''نوكّل عليهم ربي'' لا أكثر ولا أقل، لكنها في المقابل تشهر سلطان القانون على ذلك الذي اضطر لقطع الطريق لأن البلدية شطبت اسمه تحت الطاولة وحرمته من السكن الاجتماعي، أو على ذلك العامل الذي احتج على طرده، أو ذلك البطّال الذي طرق كل الأبواب دون استقبال. فهذه سلطة لا يمكنها أن تحقق انتصارات أو تحقق ولاءات أو تربح أنصار ومساندين لأنها ببساطة سلطة لا تعيش ضمن الشعب ومعزولة عنه في برج عالي. هذه الأحداث قد ينظر إليها بعض المسؤولون في الحكومة، على أنها تصرفات طائشة لشباب متهور أو قد تنعت بأنها مجرد شغب، أطفال مثلما قيل منذ 25 سنة خلت عن انتفاضة 5 أكتوبر، غير أن المتأمل فيها يرى بأنها تحمل مستوى من الوعي ليس بمقدور السلطات العمومية فك رسائلها، ومردها ليس فقط لاقتناع الجزائريين بأن البلاد لا تملك استراتيجية، فحسب بل لا توجد بها دولة تقول للمخطئ أخطأت وللمحسن أحسنت.... ول''الحفرة بركات''. أحداث القبائل2001واحتجاجات جانفي 2011 وغضب الجنوب 2013 وصفة واحدة لإدارة كل الأزمات للحكومة نموذج واحد، يتكرر كرد فعل طارئ وسريع لأحداث طارئة ومتسارعة، نموذج مهدئ، لا يحمل مضادات جذرية لفيروسات تعاود الظهور، في كل مرة، وفي عشرية واحدة تكررت ثلاث مرات من أحداث القبائل إلى غضب شباب الجنوب. أطلقت حكومة عبد المالك سلال، حزمة إجراءات لتهدئة الوضع وإطفاء لهيب احتجاجات الشغل بولايات الجنوب.. إجراءات بدت أنها كانت ''جاهزة'' على صعيد فكرة ''الحل السريع والجاهز'' أسقط على وصفات واحدة تم تبنيها في علاج ما تواتر عن أزمة القبائل 2001، ورغم تبدل الحكومات ورؤساء الحكومات، إلا أن طبيعة الحلول لم تتبدل، فقد أقرّ عبد المالك سلال مخططا للتنمية في ولايات الجنوب، ضمّنه تدابير لفائدة الشباب، كالقروض الطويلة المدى وأولوية تشغيل شباب المنطقة في الحقول البترولية، وتدابير أخرى، وهي نفسها، التدابير التي أقرتها حكومة أحمد أويحيى في جانفي 2011 فيما عرف بأحداث الزيت والسكر، رغم أن أويحيى نفسه رفض أن تسمى تلك الأحداث ب''أحداث الزيت والسكر'' على أن أطرافا تقف وراءها، فقد رحل من الحكومة ولم تكشف هوية تلك الأطراف إلى اليوم، لكن الشباب المحتج حينها، استفاد من جرعة أوكسجين وفّرتها له تدابير التشغيل في إطار ''لونساج''، فامتلأت الشوارع بطوابير من الشباب يسارعون لتكوين ملفات ''لونساج'' لفترة قصيرة، استفاد من استفاد، لكن وبعد فترة قصيرة عادت المعاملة البيروقراطية من جديد، ومعها عاد هاجس البحث عن ''معريفة'' لإيداع الملفات، مرة أخرى. تعلّم الجزائريون عن حكومتهم أنها لا تتحرك إلا تحت الضغط، حتى أن مطالبا عمّرت سنوات طويلة واغبرت في رفوف الإدارة، ولما نزل حاملوها إلى الشارع، فرضوا حوارا مع ولاة في ساحات الغضب فنالوا حقوقهم، بعدها، وعلموا إخوانهم في مناطق أخرى أن ''إيداع ملفات السكن والشغل وغيرها ثم الانتظار حتى يفرّج ربي''، عادة تجاوزها الزمن، وقد اكتشف ذلك سكان ديار الشمس بالعاصمة ذات مرة.. طبّقوها فنجحوا ورحلوا، ثم صدّروها إلى وهران والأغواط ثم إلى ولايات أخرى، دفعت الحكومة إلى تبني برنامجا إضافيا للسكن. قبل أسبوع غضب الجنوب، وقبل غضب شباب جانفي 2011، كانت للحكومة تجربة مريرة مع أزمة منطقة القبائل، 2001، والواقع يشير إلى السلطة خانتها خبرة إدارة تلك الأزمة، فارتبكت وتخندقت في حوار طويل، لكنها تمكنت بفضل عائدات البترول من خفض درجة الخطر، لما أقرت مخططا استعجاليا خاصا بالمنطقة، أولا وعملت على دسترة الأمازيغية لغة وطنية ومنحت قروضا لشباب المنطقة وامتيازات في تسديد فواتير الكهرباء والغاز وأخرى لفائدة التجار بمسح الضرائب وغيرها، وهي امتيازات موصوفة في ''مخطط استعجالي'' صالح لكل زمان ومكان، لكنه مخطط ارتجالي ظرفي، غير موسوم بديمومة علاج الأزمات بصفة جذرية، إلى درجة صار فيها الغاضبون يعلمون مسبقا ما الذي ستتخذه الحكومة من إجراءات إن هم احتلوا الشوارع. الجزائر: محمد شراق حوار سفيان جيلالي رئيس ''جيل جديد'' ل''الخبر'' ''تصرفات الأمير احتقار عميق للشعب'' السلطة تطلق إجراءات تهدئة كلما شعرت بالخطر، هل توافق هذا الطرح؟ لا يوجد شك في ذلك. وفي الحقيقة الأمر هنا لا يتعلق برد فعل وإنما باستراتيجية سياسية، فالنظام القائم يريد أن ينتفع مساندوه المحليين والأجانب من الريع النفطي بأقصى ما يمكن، مقابل ترك أقل ما يمكن لبقية السكان. وعندما تصبح الحاجيات الشعبية غير مفهومة، يوافق ''الأمير'' على فتح الخزينة، فيوزع ما يهدّئ به المطالب لفترة ثم تعود الدورة من جديد.. أساسا، هنا، روح الريع هي من تتصرف وتتخذ الإجراءات والشخص الذي لم يفعل أي شيء ولا يدري كيف ينتج الثروة هو من يتصرف، وهو شكل من احتقار عميق للشعب. هل نجحت السلطة في شراء سلّم اجتماعي بواسطة التدابير التي اتخذتها في المجال الإجتماعي؟ تمكنت السلطة من السيطرة على الوضع في المدى القصير، ولكنها سيطرة هشة جدا وتحضّر لتعقيدات في المستقبل. فالمشاكل التي لا نواجهها اليوم، تصبح أكثر حدة غدا. وأحيانا يكون الشعب مسرورا بافتكاك قرارات برفع الأجور وبقروض بنكية أو دعم مواد استهلاكية أساسية، ولكن سرعان ما يلاحظ أن التضخم يلاحقه فينطلق العداد من الصفر. لقد علّم النظام السياسي الجزائريين السلبية الاقتصادية، وترقّب أن يأتي كل شيء من الدولة المركزية، لأنه مؤسس على الريع. وجعل الخطاب السياسي الأبوي والمدرسة والنظام الاقتصادي السائد، من البلاد عقيمة، والجميع راض بهذا الركود الخطير على المستقبل، وحتى الأفامي الذي لا يدافع إلا عن رأس المال، يريد إبقاءنا في هذه الوضعية. وقد صدمت لنصائح خبراء هذه الهيئة التي طلبت من الجزائر المزيد من الواردات، ومنح قروض استهلاكية لشراء السيارات ومنع رفع الأجور. معنى ذلك أن الجزائريين يدفعون أموال النفط، في مقابل خردوات فيخسرون استقلالهم بفعل الاستدانة. وكم تمنيت لو طلبت حكومتنا من هؤلاء الخبراء حصيلة هذه السياسات التي حطمت اليونان والبرتغال أو إيطاليا قبل أن يسمّمونا بها. لماذا تلجأ السلطة لحل المشاكل تحت الضغط، بدل أن تعالج الأزمة من جذورها؟ التوجه إلى جذور المشكلة يستدعي بذل الجهود وقضاء ليال بيضاء بالنسبة لحكامنا، وهو مطلب كثير عليهم ! حكامنا يريدون استقبال الشخصيات المرموقة، ويريدون التحدث عن أي شىء مع مدعوين مرموقين .. يريدون السكينة والهدوء. أما الاشتغال على الملفات، فهو أمر غير إنساني، التوجه إلى أصل المشكلة يعني إعادة الجزائر إلى سكة العمل ومحاربة جادة للبيروقراطية التي تخنق البلاد كالسرطان. التوجه إلى قلب المشاكل يعني تنظيم الاقتصاد بما يتيح استثمارات منتجة، ويعني الاستفادة من الموارد البشرية وبناء مدرسة قوية وتشجيع روح الانتقاد، وهل تعتقد حكامنا يملكون هذا الكرم والذكاء؟!. الجزائر: حاوره حميد يس جهيد يونسي أمين عام حركة الإصلاح الوطني ل''الخبر '' ''الحكومة تتصرف كمجلس إدارة شركة'' لماذا تلجأ السلطة إلى حل المشاكل إلا عندما تكون تحت الضغط؟ مشاكل الجزائريين مؤجلة منذ كل الفترات التي تعاقبت عليها الحكومات، ولا تفاجئنا الطريقة التي تتعامل معها السلطات مع هذه المشاكل. فالحكومة أصبحت عبارة عن مجلس إدارة شركة يغيب عنها الطابع السياسي الذي تتوفر معه نظرة شاملة لمعالجة مشاكل الجزائريين خاصة في شقها الإجتماعي. إذن لا غرابة في أن تتعاطى السلطات مع الاحتجاج الحاد في الجنوب بطريقة ردَ الفعل. وما دام الأمر هكذا فالاحترافية تغيب في تسيير الشأن العام وتحل محلها البيروقراطية. وعندما تتصرف السلطة إداريا مع الشأن العام، تضع نفسها تحت الضغط فتلجأ إلى أنصاف الحلول، وبعد مدة تكتشف بأنها حلول لم تكن مبنية على تفكير جاد، وأنصاف الحلول تنتج عنها تداعيات سلبية لا يمكن تقدير عواقبها وتدفع بالبلد لا محالة نحو التأزيم، وتجعل بقية مناطق البلاد في حيرة، وهكذا عندما تحاول الحكومة الخروج من ورطة تقع في أخرى. هل تعتقد أن الإجراءات المتخذة لفائدة الجنوب تزيل الاحتقان؟ السرعة التي تم بها إعداد الحلول تحمل بذور فشلها، فالأمر لا يعدو كونه مسكّن مواجع بدل حلول جذرية لمعضلة ظلت تتراكم عبر عقود من الزمن. والحل برأيي هو العودة إلى الوضع السياسي العام، بأن تطلق السلطات إصلاحات سياسية حقيقية تضع الجزائر على سكة الاقتصاد المنتج وعلى طريق الحريات وممارسة الحقوق، وعلى طريق بناء مؤسسات منبثقة عن إرادة الشعب. أما ما نلاحظه اليوم، هو أن الإصلاحات التي جرى الحديث عنها في 2011 هي اليوم بعيدة جدا عن نية التوجه إلى ما يرغب به الجزائريون، والوعود التي أطلقت قبل عامين أفرغت من محتواها. لذلك أقول، أن حل معضلات الجزائر يبنى على رؤية شاملة تشارك في بلورتها الطبقة السياسية. ولنبدأ بورشة التعديل الدستوري التي لا يمكن إنجاحها دون نقاش سياسي يفضي إلى توافق حول أول وثيقة للجمهورية الجزائرية. هل الاهتداء إلى الحلول الاستعجالية، يعكس مشكلة شرعية النظام برأيك؟ أزمة شرعية النظام والمؤسسات لا يختلف حولها إثنان، فكل الاستحقاقات السياسية التي جرت وانبثقت عنها المؤسسات الموجودة الآن، مطعون في شرعيتها. ويضاف إلى أزمة الشرعية، نقص الاحترافية في تسيير الشأن العام، فلا غرابة إذن أن نرى حلولا مستعجلة مرتجلة لمشاكل عميقة وخطيرة. خذ مثلا اجتماعات الحكومة ومجالس الوزراء.. تسييرهما يدل على عدم توفر الجدية التي تقتضيها وجود دولة تسهر على معالجة مشاكل مواطنيها. الجزائر: حاوره حميد يس