يروى والعهدة على الرّاوي أنّ الرّئيس المصري الأسبق حسني مبارك حين أتى إلى الحكم صرّح في أوّل حديث له مع الصّحافة أنّ مطامعه المادّية محدودة جدّا فهو لا يريد أن يملك مليون جنيه بينما يفتقد ضميره الصّدق مع الله والوطن، غير أنّ جلوسه على الكرسي جعل ضميره يغيّر أهدافه فأصبح بعد ثلاثين عاما فرعونا تدين له الرّقاب يمنح الجزاء لمن يشاء ومن لا يرضى عنه فله شرّ العقاب، ولم يكن السّبب في طغيانه سوى حاشيته وبطانته التي أقنعته بأنّه القائد الملهم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. أمّا في بلد عربي آخر فقد سمعنا أنّ بعض المتزلّفين كانوا يقولون للحاكم ويردّدون على مسامع الشّعب هذه العبارة: "قبلك عدم وبعدك ندم"، حتّى ظنّ ذلك الزّعيم الأمّي أنّه مثل الأنبياء معصوم من الزّلل ولم ينتبه لحاله إلاّ بعد أن فجّر فيه أحدهم قنبلة كادت ترسله إلى العالم الآخر، وفي بلادنا حين كان الرّئيس في عزّ أيّامه يتنقّل من ولاية إلى أخرى كان يسأل أهلها عمّا ينقصهم من مرافق وحاجيات فيأتيه الجواب سراعا أنّ كلّ شيء على ما يرام والشّعب لا ينقصه سوى رؤية وجه رئيسه، فيبتسم الرّئيس غبطة وسرورا وأظنّه يقول في نفسه: "سهلت الرّابعة وربّ النّاس شعبي يحبّني"، وهكذا تهادى الشّعب وحاكمه آيات النّفاق والمداهنة حتّى وردنا المياه الآسنة. في الغرب يركب رئيس وزراء بريطانيا عربة "الميترو" ويظلّ واقفا ولا أحد يهتمّ، وفي ألمانيا يسير موكب المستشارة ميركل ولا يسمع بها أحد، فهم يعتبرون الحاكم موظّفا كغيره يقوم بواجبه ككلّ النّاس، أمّا عندنا فتأليه الحاكمين وتقديس المسؤولين هواية نمارسها من يوم ولدتنا أمّهاتنا في مجتمع أبوي يتعامل بدونية مع المسؤول مهما كان المنصب الذي يشغله، فصور التذلّل نراها في كلّ مكان، عند الزّبون في البلديّة وعند الطّالب في الجامعة وعند الموظّف في مكان العمل وكأنّ من يتعامل معه النّاس في بلادنا يملك السّموات والأرض أن تزولا، وإن سمعنا صوتا يخالف ما درج عليه النّاس من ذلّ وهوان نستغرب ونرمي صاحبه بالجنون مع أنّنا ولدنا أحرارا كما قال الفاروق. في بلادنا نصنع الفراعنة نحن، نقيم لهم التماثيل ونحكي عنهم الأساطير، ننفخ فيهم حتى ينفجرون فينا، نعلّمهم كيف يذلّوننا ونرشدهم لفنون الطّغيان جميعها وفي النهاية نشتكي من بطشهم واستبدادهم، نعطيهم مفاتيح البلاد كلّها ليعيثوا فسادا في كلّ القطاعات ونمنحهم رقاب بعضنا بعضا ليفعلوا بنا الأفاعيل ويخرج من بيننا متملّقون ومتسلّقون وانتهازيون ووصوليون يزيّنون أفعالهم ويبرّرونها، ويدعونا آخرون للصّمت على السّلطان الجائر حتّى لو باع الوطن وعبد الوثن وأذاقنا المرّ والعلقم، ويخرج من بيننا شعراء يمدحون الحاكم ويمجّدونه وإعلاميون يعدّدون محاسنه حتى يخاله النّاس نصف إله، نبيع الوهم لبعضنا بالتّمجيد ونطلب للرّئيس التمديد وإن كان لا يريد. بعد أن طرحنا وصفا لحالنا الموبوء في مجتمعنا الأبوي واتّضح موطن دائنا علينا أن نغيّر السّلوك لنغيّر الملوك، ولا سبيل لتغييرنا إلاّ بإنزال الناس منازلهم بلا احتقار ولا تعظيم بداية بالأسرة التي يجب أن تبنى على المودّة والرّحمة لا التّخويف والرّهبة كما هو حالنا اليوم، ثمّ في المدرسة إذ يقتضي الأمر أن يأخذ كلّ فرد حقّه دون تذلّل فلا نعلّم أولادنا التّلقين والحفظ والخوف من المعلّم كما نشأنا نحن بل نعلّمهم أن الأستاذ يربّي بالتي هي أحسن لا بالتي هي أخشن، ونكرّس لدى النّاس قيم العدل والمسؤولية لا التزلّف والزّبائنية علّنا نستقيم مستقبلا ونصبح أمّة كالأمم لا تشبه قطعان الغنم كما هو الحال الآن.