بسم الله الرحمن الرحيم الدولة الجزائرية بين الإيديولوجيات بقلم: الشيخ محفوظ نحناح (رحمه الله) هذه الأوراق هي نواة لكتاب كان الراحل الشيخ محفوظ نحناح يعتزم العمل عليها في نهايات عام 1999، وكانت لي الفرصة والحظّ في أن طلب مني العمل معه على هذا الكتاب بناء على تجربة سابقة في كتابه "الجزائر المنشودة: المعادلة المفقودة الإسلام، الوطنية والديمقراطية" (وقد سبق أن رويت خلاصة عملي معه رحمه الله في هذا الكتاب في منبر آخر)، والذي حدث أنه بعد صدور الجزائر المنشودة في نهاية العام، وبعد حفل تقديم الكتاب في قصر الثقافة، طلب مني الشيخ بعد أسبوع أو أسبوعين الحضور إلى مكتبه أين سلمني عشر ورقات بخط يده، قال إنها "إشكالية" كتاب جديد عن "الدولة الجزائرية بين الأيديولوجيات" وطلب مني العمل عليها بوضع خطة عمل وتفصيل ما هو مجمل وتبويب المباحث والفصول …الخ، وشاءت الظروف والأقدار أن يقف المشروع عند هذا الحد لا يجاوزه، فمن جهتي استغرقت بالكامل في مشروع إنشاء يومية "البلاد" لدرجة أن الأوقات ومضمونها غابت عني بشكل كامل لفترة من الزمن، كما أن الراحل رحمة الله عليه لم يعاود الاتصال بي من أجلها (وربما كان السبب إضافة لمشاغله العديدة والكثيرة هو بداية ظهور أعراض المرض عليه)، وبقيت الأوراق دفينة درج من الأدراج حتى عثرت عليها قبل بضع سنوات خلال غطسة من غطسات البحث في الأوراق والملفات القديمة، ومن يومها وأنا عازم على نشرها، لكن الظروف لم تطاوع والأقدار لم تقرر إلا قبل أيام حين اقترحتها على الزملاء في إدارة "الحوار" ، ودون أن أطيل أقول إننا قررنا نشرها كما هي مع الاقتصار على تصحيح أخطاء الكتابة (علما أن ما كتبه الشيخ مسودة خام لم يراجعها) وأن التعليق عليها قد يتاح في مناسبات أخرى، وأكتفي بملاحظة وحيدة هي أن مشروع هذا الكتاب المتضمن في هذه الأوقات، ولد من رحم كتاب "الجزائر المنشودة" مع رغبة لدى كاتبها في "تفكيك" الدولة الجزائرية الحديثة ومحاولة الغوص في جذروها، بحثا عن "الركائز" الحقيقية، وسعيا للفهم وللعمل وفق رؤية جديدة.
تقديم: عبد القادر جمعة الأيديولوجية الوطنية: تنطلق من ألسنة أناس تشبعوا بحب الوطن وذاقوا بالفعل مرارة الاستعمار وكانوا يصرحون في أدبياتهم الشفاهية والتحريضية وفي رسائلهم وما أقلها، بأن الجزائر المستقلة هي جزائر الامتداد من الجزائر القديمة والعميقة والأصيلة ذات الانتماء الواضح للأمة العربية والإسلامية وحضارتها وثقافتها ولغتها ووجدانها، فعليها تنافح وتدافع وبمدلولاتها تعبئ وتجند وبأهدافها الدنيوية والأخروية تستنفر وتؤمل، وبطوقها العربي والإسلامي تحتمي. وهذه الأيدلوجية وجدت لها أنصارًا ودعاة نفروا من الثقافة الاستعمارية كما وجدت أنصارا ودعاة تفننوا في الاقتباس من ثقافة المستعمر لدرجة أنهم حاربوا عدوهم بثقافته ولغته وفوق أرضه. وكلا الفريقين بحكم الاستعمار كان ضعيف الاتصال بثقافة المستعمر بل ويستنكف منها ويصر على التميز عن المستعمر في كل المناسبات تميزا في العقيدة والسلوك والكلام والممارسة، ويعتبر هذان الفريقان صمام أمان لوحدة الثوابت والوطن والشعب والقيم. الإيديولوجية الاستعمارية تنطلق من فترات الاستعمار الموغلة في الاستغلال والعدوان والهيمنة بجميع أشكالها، وترى أنها الامتداد الطبيعي لفئة من المواطنين اختاروا جهلا أو استسلاما للأمر الواقع أو تواطؤا مع المستعمر أن يكونوا طبقة تستعلي بحكم ارتباط مصالحها بالمستعمر عن الشعب وتنبت عنها ولا تعبر عن أشواقه وتطلعاته وآماله، ونالها من المستعمر حظوة ما، وراحت تنادي في أمس الأحوال بالجزائر الفرانكو إسلامية وبالجزائر الجزائرية بنوايا مبيتة تبغي الانقطاع عن عالمها العربي الإسلامي وهذه الفئة ليس بالضرورة أن تكون من جهة واحدة معينة، وإنما هناك من يقف إلى جانبها بعض أنصار وأتباع من مناطق أخرى، جمعتهم مصلحة الارتباط بالمستعمر وفصلتهم عن مجتمعهم المبادئ والثوابت فوجدوا المستعمر داعما لهم على مستويات عدة، وبوأهم من المناصب أعلاها ومن الأطعمة أحلاها ومن الملابس أجدها! وكان بين هذه الفئات والقطاعات صراعات أمكن تسميتها بالصراع الحضاري خصوصا عندما تم رفع الصوت بوضوح أن الأفكار المستوردة كفيلة بأن تبعث الجزائر بعثا يرفع بها إلى مقام متقدم في العالم !! وبالمرور على مراحل المواجهة السلبية والإيجابية مع المستعمر بجميع المنتمين للتيار الوطني العميق، كان الفوز مصاحبا باستمرار في كل الجولات: الجولة الشعبية، الجولة الثقافية، الجولة التنظيمية والتعبوية، في داخل الوطن وخارجه، لكن جولة المواجهة العسكرية كانت واضحة أنها في صالح التيار الوطني رغم الأمية وعمليات التجهيل التي كانت تلاحقه على يد المستعمر والنقد اللاذع الذي توجهه الفئات المحظوظة ذات المصالح الإستراتيجية مع المستعمر، والتي قامت في مراحل متعددة حتى الآن بدور النائب عن الفاعل والوكيل عنه، لقطع الطريق عن المشروع الحضاري بحيث كانت مجالات مهمة مسخرة لهذه الفئة التي لا دور لها سوى العرقلة أو التشويه وتوارث هذه الخطة المورثة لكثير من التوترات والحدية والراديكالية التي تسببت في وصف التيار الوطني ثم الإسلامي بعد ذلك بشتى النعوت السيئة، وبهذا المعنى فإن الإيديولوجية الاستعمارية لم يتمكن التيار الوطني أن يجتثها، بل وبحكم وطنيته وجدناه يعطف عليها فتلين بين يديه إلى درجة الانقياد المصطنع والملمس الناعم الذي في أنيابه السم والعطب. ولذلك فإن الإيديولوجية الاستعمارية تمثل مشروعا خاضعا لحسابات الشمال والجنوب والهلال والصليب والشرق والغرب والإسلام والنصرانية والتخلف والتمدن، والحضارة الإغريقية والرومانية والحضارة العربية الإسلامية، ولم يهضم الاستعمار أن تندحر قواه الصليبية على شواطئ الهلال، فحول ميادين الحرب التي ما تزال تدور رحاها الآن على أكثر من صعيد. ولذلك فقد كانت المفاجأة كبيرة عندما تمكن التيار الوطني المؤسلم وهو الضعيف عسكريا واقتصاديا ومؤسساتيا وعلاقاتيا استطاع أن يحول الضعف والموضوعية والتاريخية فيه إلى نقاط ارتكاز وتوثب فضحت أطروحة أن الاستعمار لا يغلب، وأن الفقر لا يغلب الغنى كما كشفت المفاجأة أن القوة الحقيقية في التفاعل الحقيقي مع حقائق الشعب وتطلعاته وتجسيد ذلك في التعبئة التي لا تعنى فقط تعبئة القوى المستضعفة والفقيرة وإنما هو في التعبئة العامة لكل قوى الشعب، حتى الفئات التي كانت تحسب لصالح الاستعمار تكون منها نسيج منسجم في عمومه مع الإيديولوجية الشعبية والوطنية، ولذلك نجد أن الشعب برمته عبر الترب الوطني الشاسع استطاع أن يتجند ويستمر في التجند والكفاح باستماتة قضمت أنف الدبابات وأسقطت الطائرات، وعنصر القوة هذا لم يدركه الاستعمار وأزلامه، فراح يتهيأ لما بعد مرحلة انتهاء الثورة وجهز لذلك معداته وآلياته وغير إستراتيجيته، ليضمن بذلك قدرته على الهيمنة بأشكال جديدة، ويفسر هذا ما: * فرضه من قيم ثقافية ودستورية عجز عن إنجازها طوال فترة استعماره للوطن * استوعبه من أموال لا حق لها في المرور ذهابا وإيابا إلا عبر نادي باريس. * تعميم اللغة الفرنسية على مستوى الوطن وفي أقصر فترة وبأقل التكاليف وبأبناء الوطن ووفق قوانين الجمهورية وتحت أعين من حاربوه وبمباركة منهم !! * رفع شعار الاستقلال والحرية واسترجاع السيادة الوطنية مصحوبة بانخرام الوحدة الثقافية واللغوية وتوسيع رقعة اللغة الفرنسية على حساب اللغة العربية والأمازيغية. * إثارة إشكالية أن العربية ضرة للأمازيغية وكسر الوحدة الثقافية التاريخية بينهما ليتم التحول نحو الفرنسية التي تدفع إليها ممارسات خفية بما يجعلها طوق النجاة لخاربي قارب الوحدة الوطنية. المعروف تاريخيا أن الحضارة الإسلامية لم تطرح مشكلة القوميات وكان المقبلون عليها من أجناس وأعراق وقارات وحضارات متعددة إلا ما أفرزته معاهدة "سايس بيكو" سنة 1915 التي جسدت تمزيق الشرق العربي وتم الوصول بعدها إلى تقسيم التركة العثمانية وظهرت القومية التركية ممثلة في نزعة كمال أتاتورك المتخلي طواعية عن الخلافة سنة 1924 وبرزت معها بشكل طبيعي قوميات أخرى مثل القومية الفارسية والقومية الكردية وبدأت تبرز القومية البربرية الأمازيغية الممثلة في اللهجات البربرية منذ سنة 1933 ومعهد الدراسات البربرية والمجلة الخاصة سنة 1915 والمدرسة البربرية سنة 1924 بالرباط والاستعمار جاثم على المنطقة ظهرت الأكاديمية البربرية سنة 1967 بجامعة باريس، ولعله من نافلة القول ذكر أن فرنسا نفسها احتضنت أول قمة عربية سنة 1913 وأوصى الإنجليز بعد ذلك بإنشاء الجامعة العربية سنة 1942، وليس معقولا أن يقال إن هذا الاهتمام الغربي الاستعماري عصرئذ كان غرضه خدمة الثقافة العربية أو خدمة المنطقة البربرية أو الحضارة الإسلامية. وكل هذا الغليان في المنطقة العربية والجزائري ساعتها يتجرع مرارة الاستعمار طمسا للهوية وابتزازا للخيرات واستغلالا للثروات وتجويعا بالسياط وانتهاكا للحقوق وتهميشا للوظيفة الجزائرية في المنطقة إذلالا للشخصية ومحوا من الوجود وإبادة للإنسان، ولم تستطع الجزائر أن تعرف بنفسها كما لم يتمكن الأشقاء أن يتعرفوا عليها إلا لماما وضرب الحصار عليها، ولم يسمع صوتها سوى إعلان الجهاد ودوي الرصاص، أما ما كان قبلُ من محاولات التواصل مع الشرق العربي فقد ذلل عقباتها نفر من شعبنا عرفوا بالقضية الجزائرية بدءا من الهجرات المتتابعة التي بدأها الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الوطنية العربية الإسلامية ومن جاء بعده من أهل السياسة والأدب وطلاب العلم ورجال الدعوة وصانعي الوطنية. وما تعلق الجزائريين الكبير باللغة العربية ووعائها الحضاري الإسلامي إلا دلالة نفسية على أن أية هوية دونهما لا تقوى على المقاومة المستمرة بل سيكون مصيرها الإلحاق والتبعية أو الذوبان والزوال لا محالة (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). إن نذر الاستفراد بالأوطان والأعراف والسلالات وفروعها وإبعاد القاسم المشترك بينها لهو اللغم الذي ينفجر من حين لآخر، يعرقل كل تقدم وازدهار، وما لم يحصل مرة أخرى التلاقي على ما يجمع وتقزيم كل ما يفرق فإن تراكم السلبيات لا يزيد الأمن إلا سقوطا وتخلفا، خصوصا وأن إيديولوجية الآخر استطاع أن يهذب منها ليتحكم في سائر الإيديولوجيات الأخرى، ولعل منهج الطريق الثالث الذي بدأ يتبلور وسط هيجان الإيدلوجيات التي جلبت التعاسة للإنسان، وبهذا المنهج يمكن التخلص من بقايا الأنظمة الاستبدادية بتوحشها الاستعماري والاشتراكي والرأسمالي، إذ أن بذرة حتمية التراجع والمراجعة في تسويق الإيديولوجيات سيسهل عملية إبقاء جذوة الحياة والنماء. وإذا كانت الإيديولوجية الاستعمارية اعتمدت طمس الهوية والاستيطان والاستغلال والإبادة بغرض الهيمنة فإن المنهجية غيرت تسويقها فاعتمدت عنصر مفاجأة آخر في مقابل عملية الرفض الواضحة للمشروع الاستعماري بثلاثية: الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا، وهو عنصر يعتمد إجراءات تهييئية تمثلت في رفع الأجور وإعداد الإطارات والتقسيم الإداري الجديد بهدف إجهاض الإيديولوجية الوطنية والالتفاف على ثورة التحرير بتقليم الحقول البشرية من حولها والتحضير العملي لاحتمالات المستقبل، كما اعتمدت فكرة تغيير خط التنمية الذي أوضحه مشروع قسنطينة الديغولي المزدوج. 1 الملاحقة المستمرة لكل ما يدعم الثورة على الاستعمار وبمواجهة شرسة تأذت منها الثورة أيما إذاية. 2 تحويل الاستعمار القديم إلى استعمار جديد هدفه الحفاظ على الامتيازات الاقتصادية والثقافية والإستراتيجية. وهذه المزاوجة تسمح منهجيتها بسحب البساط من تحت أقدام الثورة المعتمدة على التعبئة الشعبية في الحواضر والبوادي والأرياف والجبال بما يعني أن الإيديولوجية الاستعمارية، استهدفت فيما استهدفت امتصاص النقمة الشعبية وإجهاض روح المقاومة والجهاد والرغبة في الإعتاق والعودة إلى الذات، هذا فضلا عن هدف يتمثل في الانحراف عن المقاومة، في مقابل وضع مادي واقتصادي من جهة وتأجيل حصول الجزائر على استقلالها إلى أن تتهيأ مؤهلات بقاء الإيديولوجية الاستعمارية من جهة أخرى ولكي تجد الجزائر نفسها أمام إيديولوجية عدو الأمس مشكاة اقتباس وتقليد يخرجها من حيرة الاختيار بين الاستمرار في خطة العدو السابق أم الارتماء في أحضان الاشتراكية وكلا الخيارين يمهدان لخسارة حقيقية متوقعة لكن وهج التخلص من الاستعمار أعمى بقصد أو يغير قصد عين الحاكم فكان ما كان من ترد وإفلاس. والإيديولوجية الوطنية لم تتمكن من بلورة تجربتها بما يتناسب والتحولات الوطنية والدولية رغم أنها استطاعت أن تزيل الكثير من الفوارق وقربت بين المواطنين وحاولت القضاء على التفاوت الطبقي، لكن انهيار الاتحاد السوفياتي والدخول في العولمة وانهيار أسعار المحروقات والعجز عن الاستفادة الإيجابية من طفرة السبعينيات والانهماك في التحايل على أموال الأمة وتحفز ذوي الأيديولوجيا الاستعمارية إلى موقع صناعة القرار وروح الانهزام والاستلاب لدى فئات حكمت البلاد عجل بعملية الانهيار، وتفسير هذا هو ما كان يلاحظه المواطن الجزائري ويبعث في نفسه الأسى من سوء الأحوال الإدارية والسياسية والثقافية والاقتصادية. فالإدارة الجزائرية المفترض أن تكون فعليا في خدمة المواطن الذي عانى ويلات الاستعمار وأسلوبه في الحط من قيمته وابتزازه استمرت على ما كانت عليه وأضافت أساليب جديدة ولدت أحقادا لا يعلم مداها سوى من مورست في حقه، إذ أن الفراغ الذي أحدثه هروب المستعمر بعد الإعلان عن الاستقلال ملأه من هو إلى الأمية أقرب من جهة، كما ملأه بقية آل موسى وعيسى تحت مسمى التعاون أو ملأه من كان مهيئا لمثل هذه الحالة وهم أنواع: نوع كان خارج البلاد في تونس، والمغرب أو فرنسا. نوع كان داخل الإدارة الفرنسية في الجزائر وهم نوعان: أ نوع كان له حظ مع الثورة يقف إلى جانبها وهو عين لها داخل الأداة الفرنسية. ب نوع كان ضد الثورة، وتمكن بعد الاستقلال أن يثب إلى المواقع المتقدمة منتهزا حاجة الجزائر إليه، ولم يكتف بذلك بل راح يواصل المسيرة التي كان عليها الاستعمار. وكانت المحصلة أن الإدارة المدارة بالأسماء الجزائرية التي يمثل فيها أصحاب الإيديولوجية الاستعمارية التي أصبحت تسمى فيما بعد التيار التغريبي أو التيار الممثل لتوجهات الاستعمار الجديد تحتل المواقع ذات التأثير المباشر في حياة المواطن الذي اصطدم بنماذج إدارية ولدت عنده أحقادا تتحين الفرصة للانفجار. أن تلاقي هذه النوعيات والفئات ضمن الإدارة الجزائرية في عهد الاستقلال وبداية بناء الدولة لم يخل من التصادم والتناطح والتراشق بالتهم وشعور بعضهم بالذنب وشعور آخرين بالاستعلاء وشعور نوع آخر بضرورة التغاضي والتسامح وغيرهم بمشاعر أخرى، هذه الدائرة الإدارية جمعت هذا الشتات والأحاسيس المتناقضة، أثرت سلبا على مشروع الأيديولوجية الوطنية وعرقلت مساعيه وفتح الباب علي مصراعيه لتجدد الإيديولوجية الاستعمارية التي وجدت متنفسها في الأذرع الأخطبوطية الظاهرة حينا والخفية في أحيان أخرى!! والتي تعتبر المرفأ الآمن التي تنطلق منه المشروعات المشبوهة والتي عملت على تجميد علاقات الجزائر الخارجية إلا مع جهة واحدة. هذا وأن الإيديولوجية الوطنية كانت جبلا أشم ليس من السهل اعتلاؤه، إنما لاتعدم الأيديولوجية الاستعمارية وسائل الاختراق من نقاط الضعف أحيانا ومن نقطة القوة حينا آخر، بحيث تتمكن من التوغل والاحتواء لدرجة عرقلة قوى الأيديولوجية الوطنية من مواصلة الكدح والكفاح للانعتاق النهائي وتحقيق السيادة الكاملة والاستقلال التام الشامل. وقد كان واضحا وضوحا لا لبس فيه أن القفز إلى المواقع المتقدمة ركل الثورة ورجالها وقلص من دور الأيدلوجية الوطنية وشوهها ووصل إلى مرحلة التخوين واستدعى أن يرفع الشرفاء شعار التطهير الفارغ من محتواه إلى حد الساعة، انفتح باب المطامع والتصارع والتحارب بين الأشقاء وبين الأشقاء وأعوان الاستعمار الجدد ونمت روح النفعية والانتهازية والامتيازات وأبعدت الكنايات وتشكلت عقليات كان لها دور تشويه سمعة الأيديولوجية الوطنية التي كانت ملاذ الشعب في ساعة العسرة ومفجر طاقته أيام الثورة وتعمدت إقامة تحالفات طبيعية بين أعوان الاستعمار وتوزيع الأدوار في وقت كان اللهاث على المواقع المتقدمة سريعة الزوال على قدم وساق!! وإذا كان التوغل إلى المواقع الإدارية المتقدمة أمرا واضحا لإخفاء فيه فإنه قد كان مصحوبا بتوغل آخر من مواقع وأشخاص أصبحوا فتنة لشعب يرى يوميا اغتيال الإيديولوجية الوطنية ورموزها: فهو اغتيال مستمر للثوابت بالإقصاء أو التحجيم فهو اغتيال مستمر للغة العربية بالثنائية التميزية فهو اغتيال مستمر للمال العام والثروات بالاحتكار والتحايل فهو اغتيال مستمر للشعب بالتهميش فهو اغتيال مستمر للحريات بالتكبيل. فهو اغتيال مستمر للتاريخ بالتشويه فهو اغتيال مستمر للأصالة بتلميع الدخيل ودعمه فهو اغتيال مستمر للعروبة بالتغريب المفضوح وبالمفاصلة وشبه القطيعة التي عبرت سياسة بعض الحكومات المتعاقبة والتي أبت فيها الخارجية الجزائرية بزيارة أشقائها في وقت الشدة، بل وجدناها تسعى للإعلان عن قطع العلاقات العربية والإسلامية بشبهة وبغير شبهة وربطها بقوة مع من ثبتت التهمة في تآمرها على الوطن. فهو اغتيال مستمر للمواطنة بالانتهاك فهو اغتيال مستمر للمجاهد بدعوى تفضيل منطقة على منطقة أو بدعوى سابق أو لاحق. فهو اغتيال مستمر لعملية البناء والتعمير بالتخطيط الهدام الإستراتيجي وبالتفويض التراكمي فهو اغتيال مستمر للأيديولوجية الوطنية بالأيديولوجية الاستعمارية المتجددة فهو اغتيال مستمر لعقلنة التخطيط والتسيير بالعلمنة واللائكية ولذا نجد أن الدولة الجزائرية الفتية لم يكتب لها أن تتبوأ مكانتها اللائقة بها إلا من خلال الاعتماد علي رصيد الأيديولوجية الوطنية التي قاومت الاستعمار وقدمت مئات الآلاف من الشهداء لكنها ولانشغالها في صد عمليات الإذابة والإبادة والذود عن كيانها وكيان الأمة العربية والإسلامية لم يسعفها القدر بأن تتهيأ لما بعد نهاية المقاومة، وبمجرد الحصول على الاستقلال وجدت نفسها أمام مشاكل موضوعية لم تمكنها من أن تتنفس الصعداء وانهالت عليها، عقائديا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا سعت لإفراغها من محتواها العقائدي إلى عقائد طارئة عليها ترنح لها الشعب، وراح يكشف عن مقاومته مرة أخرى بالنهب واللامبالاة والإهمال والكسل والسلبية في تقبل قرارات لا تعبر عن وجدانه وأشواقه وتطلعاته. إذ أن الأيديولوجية الوطنية لم تستنفر من أجل تحرير الوطن من المستعمر وكفى، كما أنها لم تستنفر بسبب الجوع والحرمان، وليس من أجل الوصول إلى مؤسسات دستورية وحكومة من أبناء الوطن فقط، وإنما الإيديولوجية الوطنية انطلقت من ذلك كله مؤطرة بالرغبة الجامحة في تحقيق التميز بالخصائص الحضارية التي يعتبرها المنصفون أرقى أنواع المقاومة، وأفضل أنو ع التحرر، ولذلك فقط تنبه أول نوفمبر 1954 وقادته إلى استهداف إقامة دولة جزائرية ديمقراطية اجتماعية ذات سيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية، وفي غياب آليات تحقيق هذا تقدم ذوو الاتجاهات والمنازع المغايرة باقتراحاتهم التي وجدت صداها عند صانع القرار وتأييدها من خارج البلاد أثار حفيظة حراس الثوابت، تلك الحفيظة التي لم تكن مصحوبة بالآلية المناسبة لتجسيد ذلك، بل وقد تدفع بعضهم نحو المغانم والمكاسب ونسوا حظا كبيرا مما استحفظوا عليه، وأصبح الشعب ضحية ذلك كله والله في خلقه شؤون.