ارتفاع حصيلة العدوان الصهيوني على لبنان إلى 3583 شهيدا و 15244 مصابا    هولندا ستعتقل المدعو نتنياهو تنفيذا لقرار المحكمة الجنائية الدولية    الرابطة الأولى موبيليس: شباب قسنطينة يفوز على اتحاد الجزائر (1-0) ويعتلي الصدارة    ضرورة تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في الآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء وتكثيف الدعم لها لضمان تحقيق أهدافها    ندوة علمية بالعاصمة حول أهمية الخبرة العلمية في مكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة : عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    قريبا.. إدراج أول مؤسسة ناشئة في بورصة الجزائر    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    تيميمون..إحياء الذكرى ال67 لمعركة حاسي غمبو بالعرق الغربي الكبير    ربيقة يستقبل الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين    توقرت.. 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الجزائر ترحب "أيما ترحيب" بإصدار محكمة الجنايات الدولية لمذكرتي اعتقال في حق مسؤولين في الكيان الصهيوني    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    توقيف 55 تاجر مخدرات خلال أسبوع    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    أدرار: إجراء أزيد من 860 فحص طبي لفائدة مرضى من عدة ولايات بالجنوب    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    بوغالي يترأس اجتماعا لهيئة التنسيق    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    التسويق الإقليمي لفرص الاستثمار والقدرات المحلية    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    شايبي يتلقى رسالة دعم من المدير الرياضي لفرانكفورت    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    ماندي الأكثر مشاركة    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشباب والتاريخ: "أزمة هوية" أم "أزمة فاعلية تاريخية"؟
الهاشمي جيار في كتابه 8 آلاف سنة من التاريخ..
نشر في الفجر يوم 14 - 11 - 2012

هذا الكتاب (*) لماذا؟ لماذا هذا الإستعراض التاريخي التحليلي لعمر الجزائر المفترض الذي يقدر بثمانية آلاف سنة؟
طبعا هناك هاجس تأكيد الإستمرارية التاريخية، ومن ورائها عراقة وأصالة الجزائر وطنا وشعبا، ضمن فضائها الجغرافي الحضاري الممتد من صحراء مصر إلى المحيط الأطلسي.
لكن هناك أيضا كما يقول المؤلف هاجس "أداء واجب الذاكرة تجاه شباب اليوم والغد.. لأن التقصير في سياسة الذاكرة، أدى إلى أزمة هوية لدى أجيال الاستقلال"..
المفروض ألا يعاني شباب اليوم "أزمة هوية" على ضوء هذا الاستمرارية التاريخية التي تثبت مدى تجذر الأنا الأمازيغي في هذا الفضاء الجغرافي الحضاري العريق، بل ليس من حقه أن يشك في نفسه، مهما بلغت قساوة اللحظة التاريخية وضبابيتها، وفي رصيده التاريخي معالم ناصعة من أمثال حنبعل، يوغورطة، تاكفاريناس، سفاقس، طارق بن زياد، لالا فاطمة انسومر، الأمير عبد القادر، مصطفى بن بولعيد وهلم جرا..
لذا من المستحسن والجزائر تعيش لحظة شك حقيقية أن نتحدث عن "الفاعلية التاريخية"، بدل "أزمة الهوية" مهما تفاقمت ذيول الإيديولوجية الإستعمارية وتأثيراتها الجانبية.
يقول فرانز فانون "كل جيل يكشف رسالته، فأما أن يتحملها أو يخونها"..
وقد اكتشف جيل مصالي بوضياف رسالته المتمثلة في تحرير الجزائر، وأداها على أحسن وجه، رغم التضحيات الجسيمة التي أصبح كل من مصالي وبوضياف من رموزها.
وما على أجيال الاستقلال ألا أن تكتشف رسالتها لتؤديها بأمانة، غير عابئة بالتضحيات التي يتطلبها أداء كل أمانة ثقيلة..
ترى ما هذه الرسالة؟ إنها واضحة وضوح الشمس، مثل رسالة تحرير الجزائر بالأمس، أنها رسالة بناء استقلال الجزائر على أسس مادية ومعنوية صلبة: اقتصاد وطني منتج، وثقافة وطنية مبدعة..
لكن لماذا هذا الشعور الذي يعبر عنه الكاتب والكتاب بذهول شباب الاستقلال عن تبين هذه الرسالة، وتحملها في إطار استمرارية الفاعلية التاريخية التي كانت الثورة الجزائرية من ألمع تجلياتها؟ ينقل الكاتب عن ميشال فوستي قوله: "إن آليات حل المشاكل وثيقة الإرتباط بمناهج الإبداع"..
ولا شك أن شباب جزائر اليوم يعيش مشكلة حباة، تزيد من تعقيد الضبابية الثقافية والآفاق الإقتصادية المضطربة.. ولعل من أهم أسباب هذه المشكلة، أن حصيلة جيل الثورة وحتى أطفال الثورة! لا تبدو كافية ولا مقنعة على الصعيدين الإقتصادي والثقافي.. وقد عبر الكاتب عن جانب من هذه الحصيلة "بالتقصير في سياسة الذاكرة".. ومع كل ذلك فلنترك الشباب يبدع، لمواجهة تحديات الواقع والمصير!.
"! الإيمان بالجزائر.. في "لحظة شك
يقدم الوزير الكاتب الهاشمي جيار في كتابه الصادر أخيرا مسحات تاريخية على امتداد 8 آلاف سنة، منطلقا في ذلك من مجالي تخصصه: التاريخ والتهيئة العمرانية.
يعبر هذا المسح التاريخي عن لحظة تعيشه الجزائر دولة وشعبا عمليا منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، تزامنا مع "نهاية الهيمنة الوطنية" على الشأن الوطني في نظر الكاتب فضلا عن هلامية البدائل المطروحة، وخطر بعضها كذلك على غرار "البربرتية والإسلاموية".. في مثل هذه اللحظات التي تعبر عادة عن حالة تأزم يشعر الإنسان بالحاجة إلى مراجعة الرصيد التاريخي شعبه، ليستمد منه الطاقة المتجددة اللازمة للحفاظ على توازنه، وقدرته على تحمل الأمانة التاريخية، وتبليغها إلى الأجيال الصاعدة.
وقبل أن نسترسل في الحديث عن جوانب من هذه الموسوعة التاريخية، ينبغي أن نذكر بأن لحظات الشك لا تقتصر على الدول الفقيرة المستضعفة، بل تطال الدول العظمى أيضا أثناء الأزمات التي تمر بها، ولدينا مثل على ذلك في حملة الرئاسيات الأخيرة بالولايات المتحدة التي خاضها المرشح الخاسر ميت رومني تحت شعار "الأيمان في أمريكا"!
يحاول الوزير الكاتب من خلال موسوعته التاريخية (1300 صفحة في مجلدين)، الإجابة عن العديد من الأسئلة المطروحة في الساحة الوطنية، أسئلة تهم الشباب خاصة أن يعرف بداية الجواب عنها، ليواصل بدوره البحث واكتشاف عناصر أخرى من الجواب المفتوح، حسب عمق التاريخ وآفاقه.
والسؤال المحوري في هذا الصدد هو "لماذا يبدو الشعب الجزائري وظليعته الشبانية اليوم في حالة ذهول تاريخي، بعد أن عرف مرحلة من الفاعلية النشيطة، أخرجته من هامش الحراك التاريخي وأدخلته في صلبه؟.
كانت سنوات الثورة وبداية الإستقلال مثالا لحيوية الشعب الجزائري بواسطة شبابه خاصة وفاعليته التاريخية، ومشتلة للعزة والتفاؤل..
وشتان بين هذه الجزائر المؤمنة بذاتها ومصيرها، وجزائر اليوم "جزائر الشقاق والعنف والتمزق والشك"! لفهم هذه المفارقة ومحاولة تجاوز حالة الذهول ونفقها المظلم ورسم مسالك للمستقبل، سيتنجد الوزير الكاتب برصيد الجزائر التاريخي ضمن الفضاء المغاربي الواسع ويهدف من وراء استعراض تاريخي على امتداد 80 قرنا! إلى أبرز روافع التغيير المأمول، وتحفيز الشباب على تفعيلها، بعد شحنه بما يكفي من الوعي الوطني..
1980: نهاية الوطنية!
يحدّد الوزير الكاتب الفترة من 1925 إلى 1980 كفترة لتبلور وهيمنة الإيديولوجية الوطنية، قياسا بالإيديولوجيات المنافسة في الساحة الجزائرية وهي:
أ- الأيديولوجية الإصلاحية بشقيها:
- السياسي المتمثل في حركة المنتخبين التي تبلورت وتجسدت غداة الحرب العالمية الثانية في الإتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري" بزعامة فرحات عباس.
- الثقافي الديني المتمثل في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" التي تأسست في 54 مايو 1931، بريادة عدد من المؤسسين، يتصدرهم الشيخ عبد الحميد بن باديس.
ب- الأيديولوجيات النابعة من المجتمع الاستيطاني، وتأشيرات في المجتمع الجزائري:
- الأيديولوجية الأم هنا هي الإيديولوجية الاستعمارية، وهي عبارة عن خليط من العنصرية والنزعة الدينية التبشيرية، وهدف هذه الإيديولوجية أساسا هو تبرير الإستيطان، تحت عطاء التمدين والتنصير " لشعب همجي بدائي".
- الإيديولوجية العلمانية الشيوعية، وهي بدورها خليط من الإيديولوجية الاستعمارية، والمذهبين الإشتراكي والماركسي اللينيني السائدين وسط الطبقة العالمية الفرنسية.
ويمكن اعتبار الإيديولوجية البربرية من ثمار هذا الخليط، من خلال تأثيراته في بعض النخب المتفرنسة.
وعندما نحاول وضع حصيلة عامة للإيديولوجية الوطنية قبل 1980 نجد:
-أنها بلورت فكرة استقلال الجزائر، واستعمال جميع الوسائل المتاحة لاستعادته.
- أنها بلورت فكرة الثورة المسلحة، كسبيل وحيد للتخلص من ا لإحتلال الفرنسي، كما استطاعت أن تقد هذه الثورة بنجاح.
- أنها سعت لبناء الاستقلا ل المستعاد على أساسين راسخين:
-1 اقتصاد وطني منتج، يتيح للشعب الجزائري ودولته الفتية أن يدخل عالم الحداثة عبر بوابة التصنيع.
-2 ثقافة وطنية مبدعة حرة، تضرب بجذورها في عمق التراب المغاربي المرتبط بالحضارة العربية الإسلامية. ثقافة تعزيز الارتباط بالوطن. وبالأنا الفاعل ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
- أنها استطاعت أن تحقق ذلك، بفضل الاستقرار الذي عاشت الجزائر إلى غاية 1980، أي قبل الدخول في متاهة: "لا تنمية بلا استقرار! ولا استقرار بلا تنمية!".
"هل كان مصالي بعثيا؟!"
الحاج مصالي جزائري عادي أصلا، بمعنى أن منطلق رؤيته الإيديولوجية وما يمكن أن يتولد عنها من مواقف سياسية - هو بداية الوعي الشائع في أوساط عامة الشعب، والذي هو ثمرة الوعاء الجغرافي والتاريخي المتمثل في الجزائر خاصة والفضاء المغاربي الواسع بصفة عامة. وهو فضاء مفتوح على فضاء أوسع: فضاء الحضارة والثقافة العربية الإسلامية.
بهذا الوعي الخام دخل المدرسة الفرنسية، صيبا ثم المؤسسة العسكرية شابا.. قبل أن يحتك احتكاكا أعمق بالشعب الفرنسي، عبر بوابة الطبقة العاملة وطليعتها الحزبية: الأممية الاشتراكية والحركة الشيوعية العالمية وفروعهما بفرنساخاصة.
وعبر نفس النافذة تعرف على حركات التحرير الوطني في المستعمرات الفرنسية، البريطانية والهولندية، مثل فيتنام، الهند وأندونيسيا... كما تعرف على ممثلي هذه الحركات في الوطن العربي من سوريا إلى المغرب مرورا بمصر وتونس.
انطلاقا من هذه الخلفية الإيديولوجية السياسية استطاع الحاج مصالي - كما يقول الوزير الكاتب - التخلص من تبعية الحزب الشيوعي الفرنسي وإيديولوجيته الماركسية اللينيتة في الفترة ما بين 1927 و1929".
وهي فترة تبلور مطلب الاستقلال، وبروز "نجم شمال إفريقيا" كتنظيم مستقل.
طبعا تمّ هذا التخلص على أساس رؤية بديلة: رؤية وطنية تحريرية، في إطار عمالي تقدمي، لا يتسبعد اللجوء إلى الوسائل الثورية التقليدية وغير التقليدية في مكافحة الاستعمار الإستيطاني بمختلف مظاهره.
على أساس هذه الرؤية، ظهر النجم وبعده حزب الشعب الجزائري كتنظيم شعبي عمالي، يستلهم طرق تنظيم وأساليب عمل الحركات الإشتراكية والشيوعية بفرنسا وأوروبا عامة.
فحزب الشعب بناء على ذلك حركة عمالية تقدمية، سابقة لحزب البعث في صيغته الأصلية وما تفرع عنها بكل من سوريا والعراق وأقطار أخرى، وتختلف عنه كل الإختلاف ايديولوجية وتنظيما وممارسات نضالية.
فحزب ميشال حركة نخبوية في شكل نواد، تضع نصب أعينها الاستيلاء على الحكم عن طريق الإنقلابات خاصة - عكس حزب الشعب وقاعدته العمالية المنتظمة في شكل هيكل يبتدئ بالخلية وينتهي بالمكتب السياسي... هيكل هدف الثورة الجذرية على نظام الاحتلال الاستيطاني الذي لا يمكن الإطاحة به بمجرد إنقلاب لاستحالة ذلك؛ لأن هذا النظام والسلطة المتولدة عنه هما من المستوطنين وإليهم. وبالتالي لا يمكن تحريك هذه السلطة ضد النظام القائم.
لذا نشاطر رأي الكاتب في نهاية المطاف الذي ينفي أن يكون مصالي بعثيا، لأن زعيم حزب الشعب الجزائري واضح تماما في هويته الإيديولوجية والسياسية:
- فهو وطني الجوهر، أي عربي مسلم الهوية، بعفوية تامة نظرا لانتمائه الثقافي والحضاري.
- وهو ثوري في وسائل نضاله أي لا يستبعد احتمال اللجوء إلى الكفاح المسلح عند الضرورة.
- وهو تقدمي في منهاج حياته وسلوكه، بحكم معاشرته الطويلة للأوساط العالمية واليسارية بفرنسا خاصة.
مصالي - سي الجيلاني:
العهد التأسيسي
في بداية الحركة الوطنية الثورية - منتصف العشرينات من القرن الماضي - كان هناك عهد مؤسس بين رجلين: الحاج مصالي ومحمد سي الجيلاني.
كلاهما كان متشبعا بالوعي الوطني الشائع وسط المجتمع الجزائري، وهو وعي نابع من لا شعور رافض للاستعمار الاستيطاني ومظالمه. المسجلة بأحرف سوداء في الذاكرة الجماعية.
ينتمي مصالي إلى زاوية مقاومة (1) معروفة بغرب الجزائر - والمغرب الشرقي - بينما كان سي الجيلاني معلم قرآن بناحية الأربعاء ثان إيراثن، نسبة إلى عرش كانت له أيام مشهودة في التصدي للاحتلال الفرنسي للمنطقة.
وتم صقل هذا الوعي الوطني الخام، بالإحتكاك مع حركة الطليعة اليسارية، سواء على الصعيد الحزبي أو النقابي.. وما لبث هذا العهد المؤسس أن استقطب العديد من الرواد الذين ذاع صيتهم لاحقا في قيادة نجم شمال إفريقيا وحزب الشعب الجزائري، أمثال أكلي بنون أحمد يحياوي، بالقاسم راجف، عما ايماش، وهلم جرا.
من منطلقات هذا العهد المؤسس تعريف " من هو الجزائري؟" وكان الجواب بكل بساطة: "أن الجزائري في ظل الوضعية الإستعمارية الإستيطانية هو "العربي المسلم".
وتكتسي صفة "العربي" هنا مدلولا ثقافيا وليس عرقيا، علما أن لاعرقية في الإسلام.
طبعا كان مصالي ورفاقه بفرنسا كثيرا ما يستعملون لغة البلاد، أداة اتصال ووسيلة كفاح. لكنهم في نفس الوقت كانوا متمسكين بهويتهم الثقافية، حريصين على التميز ببعض مظاهرها، على غرار الطربوش والزي التقليدي..
ورغم انفتاحهم على الثقافة الفرنسية فإنهم تجنبوا اتخاذها ثقافة، لأنهم في هذه الحالة يصبحون "فرنسيين بالثقافة"، كما يقول عن نفسه الكاتب النزيه مولود فرعون، ضحية جنون منظمة "أواس" الإرهابية.
كانت أيديولوجية النجم وبعده "حزب الشعب الجزائري" إذا ايدولوجية وطنية () ثورية متشبعة بالروح العالمية التقدمية وأساليبها النضالية التي تتخذ أحيانا طابعا عنيفا.
وبداهة أن رواد النضال الوطني الثوري من منطقة الصومام وجرجرة، إنما التقوا حول مصالي وسي الجيلاني، وهم على دراية تامة بهذه الإختيارات الإيديولوجية والسياسية، هذه الخلفية يتعمد دعاة البربرتية - منذ 1949 إلى يومنا هذا - تجاهلها وكان الدكتور الأمين الدباغين قد ذكر بها رواد هذه النزعة، عندما اتصلوا به سنة 1949 مبررين انشقاقهم عن "حزب الشعب الجزائري" بنزعته "العربية الإسلامية".
فقد سألهم باختصار: كنتم تعرفون جيدا اختيارات هذا الحزب، فلماذا انضممتم إليه إذا؟!"(2).
وحضر المناضل عمر بوداود لقاء لرواد البربرتية في نفس الفترة، تقرر خلاله الإلتحاق بالحزب الشيوعي الجزائري "نغادر الإجتماع محتجا: "ألهذا دعوتموتا؟!".
وكان مصالي قد تفطن لحقيقة البربرتية منذ 1930، سنة الظهير البربري بالمغرب المحتل، حين اعتبرها مولودا هجينا للإيديولوجية الاستعمارية الكنسية، فشأنها شأن العلمانية مجرد مدخل للتنصير.
بوتفليقة زار "الخمسة" في "توركان" أم في "أونوا"؟
سجلت في حدود دائرة اهتمامي من تاريخ الجزائر المعاصر (من الحرب العالمية الأولى إلى الإستقلال)، بعض الأخطاء التي ارتأيت التنبيه إليها، حتى يتفاداه الكاتب في الطبعة الثانية من مؤلفه، لكن قبل ذلك بودي إبداء ملاحظتين:
الأولى: إشادة الكاتب بالمصادر الفرنسية والإعتماد عليها بالأساس. هذا الإعتماد شبه الكلي على مصادر طرف في خصومة تاريخية مع الجزائر دولة وشعبا، من شأنه أن يضعف من مصداقية الكاتب، في تطلعه إلى تحرير تاريخنا وتحويله فعلا إلى أداة فعالة، في تغذية الحس الوطني وإرساء أسس الهوية الجزائرية، بالإعتماد على "المشتلة الثقافية الأصيلة" حسب تعبير الكاتب نفسه.
أن المصادر الفرنسية تحمل شبهة الإنحياز والمواقف المسبقة، والإعتماد عليها دون سواها، يمكن أن يؤدي بنا إلى الإنحياز ضد أنفسنا!.
الثانية: تنافي المنطلق الوطني للكاتب مع استعماله المصطلح الإستعماري، على غرار "انديجان" (بدل جزائري) و"الحركة الإنفصالية" (بدل الحركة الوطنية التحررية)، وما إلى ذلك، فاستعمال مصطلح "الإنفصال" مثلا، يتضمن الإقرار بأن الجزائر كانت أصلا جزءا من فرنسا!.
ثم أن للحركة الوطنية مصطلحاتها الخاصة، كجزء من ثورتها الشاملة على الإستعمار الإستيطاني وايديولوجيته.. مثل "الجزائر" هذه الصفة التي كان يرفضها المستعمر لدلالاتها الوطنية الإستقلالية.. ولا أعتقد بناء على ذلك أن هاجس الموضوعية يلزم الكاتب أن يتقمص شخصية المستوطن، ويستعمل بعض مصطلحاته المهنية للشعب الجزائري.
ذكر الكاتب بعض الوقائع في مجال دائرة اهتمامنا دائما بدون تحر كاف، على سبيل المثال:
1 تحدث (في صفحة 722) عن مشروع جبهة وطنية، غداة الحرب العالمية الثانية، وفي تقديرنا أن سياق تلك الفترة لم يكن مناسبا تماما للحديث عن هذه الفكرة بصيغة "المشروع"، ومن الأدلة على ذلك:
1 أن اهتمام فرحات عباس عند تأسيس الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري سنة 1946، كان منصبا على انفتاح هذا الحزب على المستوطنين، لاسيما فئة الشباب منهم.
ب أن الدكتور الأمين الدباغين منشط حزب الشعب الجزائري في ظل السرية كان اتصال بالدكتور الشريف سعدان قبل إجراءات العفو العام في مارس 1946 ليجس نبضه في موضوع التفكير في ائتلاف وطني إصلاحي جديد على غرار حركة "أحباب البيان والحركة" ترى ما كان رده؟ قال باختصار "كفانا أنكم ضحكتم على أذقاننا في مايو 1945!".
ج أن سنة أو أقل لم تكن كافية لينسى الوطنيون موقف الشيوعيين منهم أثناء حوادث 8 مايو 45 وتداعياتها، بعد أن وصفوهم "بالنازيين"، ولم يترددوا في التحريض على قمعهم بل إعدامهم، فضلا عن مشاركة بعضهم في القمع مباشرة.
للتذكير أن وزير الطيران في حكومة الجنرال دوغول آنذاك هو الشيوعي شارل تيون.
2 جارى الكاتب المناضل حسين آيت أحمد، في ادعاء رئاسة "المنظمة الخاصة" ومن شتاء 1947 إلى صائفة 1949.. ويذكر الكاتب بالمناسبة نقلا عن آيت أحمد دائما "أن أركان المنظمة الخاصة عقدت أول اجتماع لها في 13 نوفمبر 1947 (ص 725) المعروف أن عملية تأسيس المنظمة شبه العسكرية لحزب الشعب استغرقت قرابة السنة، وقد تمت العملية حتى خريف 1948 تحت الإشراف المباشر لرئيسها الأول محمد بلوزداد، وكان آيت أحمد طوال هذه الفترة نائبه السياسي، إلى جانب نائبه العسكري عبد القادر بالحاج الجيلالي (الخائن "كوبوس" أثناء الثورة). فحسب إدعاء آيت أحمد، أن بلوزداد لم يؤسس ولم يترأس "المخ" قط!.
3 وبخصوص "المنظمة الخاصة" دائما، يقول إن قرار حلها صدر في صائفة 1950، والأصح أن القرار صدر عن اللجنة المركزية في ربيع 1951.
4 تحدث عن المناضل الكبير محرر عصامي ونسبه إلى سكيكدة.. والحقيقة أن هذا الأخير من أقطاب الحركة الوطنية في بسكرة، وهو الذي رشح إلى المنظمة الخاصة، بناحيته مناضلين، لعبا دورا رائدا في إعلان الثورة وقيادتها، ونعني بها الشهيدين محمد العربي بن مهيدي ومصطفى بن بولعيد.
5 ذهب الكاتب أيضا، إلى أن "اليخت دينا" وصل إلى الشواطئ المغربية في 20 يوليو 1955، والمعرف أن اليخت أنزل حمولته من السلاح ليلة 31 مارس، أي قبل ذلك بنحو 4 أشهر.
6 وهناك خطأ نرجح أن يكون مطبعيا: تحديد تاريخ استفتاء تقرير المصير ب 2 يوليو 1962، والأصح هو الأحد فاتح يوليو.
7 وأفادنا الكاتب بمعلومة كان بودنا لو أحالنا على مصدرها، مفادها أن الضابط الشاب عبد العزيز بوتفليقة زار "القادة الخمسة السجناء" بقصر "توركان" في سبتمبر 1961، مستعملا جواز سفر تونسي"..
هذه المعلومة جديدة علي شخصيا، لأن المتداول، الموثق أن بوتفليقة زار الخمسة في غضون الأسبوع الثالث من ديسمبر 1961، إثر نقلهم إلى قصر "أونوا" المرحلة الأخيرة من حبسهم زارهم منتحلا صفة موظف سام مغربي، بجواز سفر مغربي، بعد محمد الصديق بن يحي، وقبل بن طبال وزير الدولة القائل في هذا الشأن "زرت الخمسة"، فوجدت بوتفليقة قد سبقني إليهم!".
8 وأختم سلسلة الأخطاء في حدود اهتمامي والشائع من المعلومات بخطأ اعتبره طريفا: الخلط بين كارثة باب الوادي التي حدثت سنة2001، وزلزال بومرداس الذي حدث في 21 مايو 2003!.
(*) الجزائر، تاريخ بلا طابوهات، مسالك للمستقبل، الوكالة الوطنية للنشر والإشهار، الجزائر 2012.
(1) الزاوية الدرقاوية
(2) شهادة المحامي مبروك بالحسين في كتابنا نداء.. الحق، دار هومة 2001.
5 أفكار جريئة
1 دخل البربر الحضارة باعتناق الإسلام وأداته اللغوية..
2 أخفق مؤتمر الصومام في تذليل التناقضات، وتجنب الأزمات السياسية في المستقبل.
3 إبعاد بن بلة في مؤتمر الصومام كان خطأ سياسيا..
4 فرضت الأيديولوجية الوطنية نفسها طيلة 55 سنة: من 1925 إلى 1980..
5 البربرتية والإسلاموية في مقدمة الأيديولوجيات التي باتت تهدد كيان المجتمع الجزائري..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.