ليست الزعامة هالة يصنعها بعض الناس حولهم عبر منصب أو مال أو جاه بالخدم والحشم والحاشية المقربة المتزلفة .. لكن الزعامة قد تبرز في صورة رجل في الظل قد يبدو عاديا في وطنه لا يعرفه عامة الناس بل حتى بعض الخاصة، ولكنه قد يكون زعيما كبيرا لدى الآخرين في شتى بقاع الأرض لما قام به وبما تركه من أعمال وأفكار وقيم وبما صنعه مع زعماء يشهدون له بقيمته في تلك البقاع.
المجاهد والنائب السابق ورئيس حركات التحرر السابق بالجزائر عمي جلول ملايكة الذي ودعناه يوم الخميس الماضي في جو جنائزي مهيب بمقبرة سيدي حَلُّو بالبليدة التي تعتبر من أقدم مقابر مدينة الورود هو من هذا الصنف من الرجال الكبار. لو أننا سَألْنا الكثير من الطلبة الجامعيين مَنْ يكونُ جلول ملايكة، فقد تكون أجوبتهم أنه شهيد أو لاعب كرة قدم، والقليل قد يقول لك إنه مجاهد ولا يضيف في جوابه أكثر من هذا عن الراحل الكبير شيئا، بل إن بعضهم قد لا يفرق بينه وبين شقيقه الصحفي المتميز والإطار بمؤسسة التلفزيون الصديق العزيز محمد ملايكة فيقول لك إن جلول صحفي !!. بدأ عمي جلول نضاله مبكرا في صفوف الحركة الوطنية مع النصف الأول من أربعينيات القرن الماضي مناضلا في حزب الشعب ثم حركة الانتصار ، ثم كان من الرعيل الأول الذي انظم لثورة أول نوفمبر إذ عمل إلى جانب مختلف قادة وقيادات الولاية الرابعة التاريخية للتمكين لاستعادة استقلال الجزائر . لم يتوقف نضاله بعد الاستقلال حيث كان عضوا في المجلس الوطني التأسيسي ثم راح يصول ويجول في أروقة المجلس الشعبي الوطني حيث كان نائبا لرفيق دربه في الجهاد المجاهد الراحل ورئيس المجلس الشعبي الوطني الأسبق رابح بيطاط رحمه الله. لكن الذي لا يعرفه كثير من الشباب أن الراحل جلول ملايكة كان مسؤولا لحركات التحرر إذ عمل بقلب المناضل وجرأة الثائر على مساعدة كثير من شعوب القارة الإفريقية على التحرر، إذ حاول أن يغرس فيهم تلك الروح الثورية الجزائرية المتأصلة والمنبثقة من أدبيات الحركة الوطنية ومن بيان أول نوفمبر بالذات ومن ممارسات جبهة التحرير الوطني في كفاحها المستميت لاستعادة الاستقلال… وقد أقام الراحل أوثق العلاقات مع مختلف زعماء حركات التحرر الإفريقية خصوصا ومن بينهم الزعيم نلسون مانديلا وسامورا ماشيل وأميلكار كابرال الذي كان يَعتبر الجزائر كعبة الثوار. وأما الثورة الفلسطينية فقد سكنت قلب هذا الثائر المتميز، فقد كان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بمجرد نزوله على أرضية مطار الجزائر لا يبدأ بالأسئلة عن أصدقائه من الجزائريين قبل أن يسأل عن جلول ملايكة. ولا شك أن الحضور الكثيف لأعضاء السفارة الفلسطينية ولقيادات فلسطينية متعددة المشارب جنازة الراحل تبين كما قال لي أكثر من مسؤول فلسطيني حضر تلك الجنازة الحب العميق الذي يكنه الفلسطينيون للراحل سي جلول. رحمك الله وألهمنا فيك الصبر والسلوان وعوضنا رجالا من صنفك الثقيل في حب الوطن وخدمة القضايا العادلة أينما كانت. فأنت لم تَمُتْ يا عمي جلول مجرد ثائر من أجل وطنك وشعبك في الجزائر، ولكنك كنتَ ثائرًا تجاوزتَ حدود الوطن بل وكنتَ زعيمًا إفريقيا كبيرا بلا منا منازع، ألم تكنْ أنتَ بالذات باسم الجزائر الثائرة مَنْ دفَعْتَ بالكثير من زعماء حركات التحرر للبروز والدفاع عن استقلال بلدانهم ليكونوا زعماء بعد استعادة الاستقلال لبلدانهم ؟ لن أضيف شيئا إن قلتُ إنَّ زعيما إفريقيا كبيرا قد مات اليوم ..فقد كان جديرا بإفريقيا أن تحزن على جلول مثلما حزنت على مانديلا وكينياتا ونكروما وماشيل وكابرال وغيرهم من زعماء التحرر في القارة السمراء. [email protected]