وُلد القس الإثيوبي ملقاه لأبٍ يهودي وأمٍّ نصرانية في إحدى قرى إثيوبيا، ودرس في صباه المبكر التوراة والإنجيل، واختار أن يصير نصرانيًّا كأمِّه، ولم يكن اختياره نابعًا عن قناعة بالديانة النصرانية، ولكن للأفضلية التي يحظى بها أتباع هذه العقيدة في بلاده التي تُعَدُّ أحد معاقل النصرانية في إفريقيا. لم يكن (ملقاه) مقتنعًا بالتوراة أو الإنجيل، فلم يتقبَّل عقله ما في التوراة من تحريفات وخرافات وأباطيل؛ فاتجه إلى دراسة الإنجيل الذي تُؤمن به والدته، فوجد أن التناقض بين نصوص الأناجيل واضح، فضلاً عن أنها لا تنظِّم أمور الدنيا والآخرة، فأدرك أنها ليست من الكتاب المنزَّل على عيسى عليه السلام(1). أمَّا فكرته عن الدين الإسلامي، فكان يتصور أنه دين المتخلِّفين بسبب الافتراءات والأكاذيب التي كانت تُشاع عن الإسلام والمسلمين؛ ومن ثَمَّ كَبَر ملقاه على بُغض الإسلام، وبحث عن مهنة تليق بمستوى أسرته الاجتماعي، وتُتيح له أن يحيا حياته في رغد من العيش، فلم يجد أفضل من السلك الكنسيِّ؛ حيث سيحظى بالاحترام والمنصب الكبير، وقد ساعده على الالتحاق بالعمل في الكنيسة حفظه التوراة، وصار ملقاه قسًّا يُشار إليه، وكانوا يُنادونه: (أبانا)(2). * قصة إسلام القس الإثيوبي ملقاه استمرَّ ملقاه في عمله بالكنيسة ست سنوات، اجتهد خلالها في الدعوة إلى النصرانية، وظلَّ هكذا يعمل بجدٍّ في خدمة الكنيسة والدعوة لمعتقداتها حتى كانت ليلة فاصلة؛ إذ رأى في المنام رجلاً يقترب منه ويُوقظه، هاتفًا به أن يقرأ الشهادتين: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، وسورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4]؛ فقام من نومه فزعًا وقد رَوَّعته تلك الرؤيا التي لم يستوعبها، وإنما فسَّرها بفهمه القاصر على أنها من الشيطان(3). ولكنَّ الله أراد بهذا الرجل خيرًا، فتكرَّرت الرؤيا ليلتين أخريين، ورأى في الليلة الثالثة نورًا يُضيء أمامه الطريق، ورجلاً يُقْرِئه الشهادتين وسورة الإخلاص؛ فأدرك من فوره أن هذه رؤيا حقٍّ، وليست من عمل شيطان رجيم كما كان يتوهَّم؛ فالنور الذي أضاء سبيله في الرؤيا قد تسرَّب في وجدانه وأنار بصيرته، فأصبح إيمان عميق -من يومه وفي قرارة- نفسه بأن عقيدة الإسلام هي الحقُّ، وما دونها باطل، ولم يطُل به التفكير لأنه -بحكم دراسته اللاهوتية- كان مطلعًا على البشارات العديدة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لذا أشهر إسلامه عن اقتناع تامٍّ، وبعد ذلك أسلمت زوجته، وكذلك أطفاله الثلاثة، وغيَّر اسمه إلى (محمد سعيد)(4). ولكن لم يكن نبأ إسلام محمد سعيد سارًّا للكنيسة؛ فقامت بحرمانه من الامتيازات التي كان ينعم بها، ولم تكتفِ بذلك بل سعت حتى أدخلته السجن؛ ليلقى صنوفًا وألوانًا من التعذيب في محاولة لردِّه عن إيمانه؛ ليكون عبرة وعظة لكلِّ مَنْ يُفَكِّر في ترك النصرانية، وتحمَّل محمد سعيد كل ذلك ولم يتزحزح عن إيمانه، وعندما فشلت الكنيسة في ردِّه عن الإسلام، اضطرت إلى تركه؛ لكي لا يتحوَّل إلى رمزٍ وقدوة تُنير الطريق لكثير من رعايا الكنيسة إلى درب دين الحقِّ(5). * إسهامات محمد سعيد ملقاه لم يكن وَضْع محمد سعيد في السجن سببًا في أن يُبعده عن الطريق الصحيح، بل خرج منه أقوى إيمانًا وأشدَّ تصميمًا على إيصال دعوة الحقِّ إلى غيره؛ فأصبح داعية للإسلام بعدما كان قسًّا يدعو إلى النصرانية، وجعله الله سببًا في هداية نحو 280 شخص، اعتنقوا الإسلام على يديه. واستفاد محمد سعيد من دراسته العميقة للتوراة والإنجيل في استكشاف الكثير من أوجه الإعجاز القرآني، وأنه بحكم عمله السابق كقسٍّ يُدرك الأساليب غير السوية، التي يلجأ إليها المنصِّرون من أجل جذب الفقراء والمحتاجين إلى الديانة النصرانية؛ حيث يستغلُّون فقر الناس وعَوَزهم بالتظاهر بمواساتهم ماديًّا ومعنويًّا، والاهتمام بهم صحيًّا وتعليميًّا في محاولةٍ لاكتساب وُدِّهم ومحبَّتهم، ومن ثَمَّ السيطرة على عقولهم وإقناعهم بأن في النصرانية خلاصهم من عذاب الآخرة وفقر الدنيا. وعن أسلوبه في الدعوة يقول: "أعتمد على معرفة عقيدة مَنْ أدعوه من غير المسلمين؛ ومن ثَمَّ مناقشته في عقيدته وإظهار بطلانها ومخالفتها للفطرة والعقل، ثم بعد ذلك أقوم بشرح ما في الإسلام من نواحٍ خيِّرة عديدة، مبينًا أنه الدين الحقُّ الذي اختاره الله للبشرية منذ بدء الخليقة؛ فالإسلام يعني التسليم لله بالربوبية والطاعة، والانقياد لأوامره عز وجل، واجتناب نواهيه"(6). * وعن أمنية محمد سعيد يقول: "أمنيتي الخاصة أن أتمكَّن من هداية والدي ووالدتي إلى دين الحقِّ… أما أمنيتي العامَّة فهي أن أستطيع أن أكون أحد فرسان الدعوة الإسلامية، وأن يُوَفِّقَنِي الله لما فيه خير أُمَّة الإسلام، وأن ينصرها ويُعلِي شأن دينه"(7). أَجَلْ، أمنيات تدلُّ على صدق إيمان القس السابق (ملقاه) بدين محمد صلى الله عليه وسلم، الذي صار سعيدًا باعتناقه له، فتسمَّى باسم نبي الإسلام، ويقرنه بكونه سعيدًا.