كان النّاسُ بالأمْس القريب يلتقون في أماكن العمل، وفي المقاهي والسّاحات العامّة وفي المجالس العائليّة، يتداولون الأخبار العامّة، فيقول أحدهم للآخر، هل سمعت ما نقلتْه القناةُ التلفزيونيّة الفلانيّة أو الجريدة العلانيّة؟ أو هل قرأت ما جاء في الكتاب الفلاني؟… واليوم أصبح الناس يلتقون فيقول أحدهم للآخر: هل سمعت ما يُتداوَل في الفايسبوك؟ ويبدأ في سرد الكثير من الأخبار، دون أن يسأله السّامِعُ عن المصدر أو مصداقيّة أخباره!.. وقد يستوي في ذلك المثقّف والبسيط على حدّ سواء، واللافت في الأمر أنّ بعض وسائل الإعلام أصبحت تتَّخذ من بعض منشورات الفايسبوك مصدرا لأخبارها الرئيسيّة وتبني عليها تحاليلها، ولا تتحرّج من الإفصاح عن ذلك!.. لقد لاحظتُ في المدّة الأخيرة، خاصّة بعد الإعلان عن الانتخابات البرلمانيّة، ظواهر تستحقّ الوقوف عندها للتّأمّل والتّحليل، منها على سبيل المثال، أنّ بعضهم لم يكن له حسابٌ على الفايسبوك أو لم يكن ينشط إلا نادرا، فلمّا اقتربتْ الانتخابات أصبح لا يغادر الشّاشةَ الزرقاء، ويتّصلُ بكل النّاس ويعتقد أنه بذلك يستعرض شعبيتَه أمام من يعنيهم الأمر ويقوم بالإشهار لنفسه!.. وبعضهم يتنافس مع خصومه على التّرشّح، فينشر منشورا للدّعاية لنفسه أو للتّعريض بخصومه، ويستدلّ بما يأتيه من إعجابات أو تعليقات على أن الرّأيَ العامَّ كلّه يشتَغِلُ لصالحه، وأنه صاحبُ أغلبيّة ساحقة!.. كما أنّ بعضهم ممّن لم يُسعِفْهُ الحظّ في الترشّح يوحي إلى بعض أصدقائه الافتراضيين بالطعن أو التعريض في القائمة، ويجمع له بعض الإعجابات والتعليقات، ويجعل من ذلك دليلا على اعتراض شعبيّ عارم على منافسيه!.. إنّ الذين يبنون مواقفهم انطلاقا من مجموعة من الإعجابات والتعليقات التي تصل صفحاتِهم، قد فاتهم أنّ كثيرا من مستعملي الفايسبوك قد يضعون علامة إعجاب لمجرّد المجاملة، دون أن يُكلِّفوا أنفسَهم عناء قراءة مضمون المنشور!.. كما أنّ أكثرهم من الشّلّة المقرّبة من صاحب المنشور، أو من أصدقائه وعشيرته وجيرانه.. بالإضافة إلى أنّ مستوى الذين يعلّقون ليس واحدا، فقد تكون قضيَّةٌ تتطلَّبُ أن يتدخّل فيها الخبراء والمتخصّصون، بينما يُدْلي فيها من هم دون ذلك، هذا فضْلا عن أنّ الفايسبوك يطرح نقاشا بلا روح، ليس فيه تفاعل أو تكافؤ للفرص، فأنت لا تعرِفُ مَنْ وراء الشاشة ولا تستطيع أن تصحّح له إذا أخطأ أو توقفه عند حدّه إذا تعنّت، فقد تُدحِضُ رأْياً من هنا، ويطلع عليك صاحبُه من هناك مُقَنَّعاً باسم آخر!.. وبالتالي قد يستأثر شخصٌ واحدٌ بالنقاش وتوجيه الرأي، ويوحى إليك أنك تواجه رأياً عامّاً، بينما أنت في الحقيقة تواجه شخصا واحدا مَاكِراً!.. ولقد بدأتُ أقرأُ لبعضهم يقول إنّ قائمتَه ستحصد الغالبيةَ السَّاحقةَ من الأصوات بدليل القبول العارم الذي تحصده في وسائط التَّفاعل الاجتماعي!.. في انتظار ذلك، إنّه لا بدّ من القول، إن الرَّهان على الفايسبوك في قياس اتجاه الرأي العام وفي كسْب الأغلبية قد يضلّل كثيرا.. وأنّ الشّاشات الزّرقاء لا يُمكنها أن تكون بديلا عن النّزول إلى الميادين العميقة.. وعلى الذين يعتبرون بعض الجامات واللايكات رأياً عامّا، أن يعرفوا أنّ تعداد الشّعب الجزائريّ فاق الأربعين مليونا، وأنّ أكثرَهُم لا يمتَلِكُ حِساباً في الفايس بوك.