اقتربت "الجزائر الجديدة" من كوكبة من المثقفين الجزائريين بمختلف تخصصاتهم لرفع اللّبس عن الحقيقة وراء عزلة وغياب "النخبة المثقفة" عن الواقع الاجتماعي والسياسي، فلم تُسجل انتقادات للمسؤولين ولا مطالبات بتحسين الأوضاع الاجتماعية، خاصة وأنه قد تم مؤخرا التوقيع على قانون المالية لسنة 2016، وكذا تغيير الدستور الثلاثاء المنصرم. زينة بن سعيد لطالما كانت "النخبة المثقفة" على مدار تداول العصور والأزمنة بمثابة الأب الروحي للمجتمع والقائدة الأولى للدولة لتحقيق أهداف هذه الأخيرة، فهي السباقة للمطالبة بالتغيير نحو الأفضل من خلال الاقتراحات والبدائل، فهي المنبه والمُوجِه وعصب الحياة الحساس والمدرك للوضع الحقيقي لكل ما يطرأ على المجتمع، فإذا ما قارنا بالدول الأخرى على الأقل التي تجمعنا معها حدود، فإن النخبة المثقفة هناك كان لها دور بارز في العمل الجمعوي والسياسي، فليس معناه الأدب والشعر والفن إحداث قطيعة مع الواقع بكل متغيراته. الكاتب عيسى شريط: النظام صادَر دور النخبة المثقفة منذ الإستقلال والدستور يخضع للمزاج أكد الكاتب والسيناريست عيسى شريط، أنه لا أحد يمكنه أن ينكر دور النخبة المثقفة في أي مجتمع، فالنخب هي التي تحدث التغييرات والثورات، ثورة التحرير الجزائرية مثلا قامت بها نخبة من الشباب الجزائري المثقف آنذاك. أما ما يفسر سلبية النخبة الجزائرية في الراهن، فينحصر ذلك أساسا في أن النظام السياسي الذي أقيم منذ الاستقلال عمل على مصادرة الدور المنوط بالنخبة المثقفة لأنه كان يدرك جيدا مدى خطورتها، وقد تمكن من ذلك عبر سياسة محكمة جعلت من المثقف كائنا جائعا يلهث سدى خلف لقمة عيشه اليومية، وبمرور الزمن انطبع بالشخصية السلبية الفاشلة التي لا يمكن الاقتداء بها، وعملت نفس هذه السياسة بالتوازي على ترقية دور الدهماء فأضحى المقاول مثالا يقتدى لما يشكله من رمزية للإنسان الناجح. وأضاف شريط، أن هذه السياسة لم تأت صدفة إنما كانت مبيتة ومقصودة ومدروسة بشكل يحقق ما كانت تصبو إليه الطقم الحاكمة، فقد استهدفت أساسا عقل وفكر الانسان الجزائري عبر أنظمة ومناهج إيديولوجية وتربوية وتعليمية لا يمكن قطعا أن تنتج سوى إنسانا فاشلا ينساق خلف أي تيار دون تفكير أو تأمل، وخلاصة الكلام أن النخبة المثقفة في مجتمع بهذه الصورة الراهنة لا يمكنها أن تفعل شيئا فهو ينبذها أصلا ويلهث خلف شخصيات أخرى مزيفة ومشعوذة صنعتها سياسة رعناء اعتمدت منذ الاستقلال. وتابع شريط، أن الدساتير التي يتم العبث بها وتعديلها وتغييرها كل حين تفقد عمقها وجوهرها، فكل القوانين يمكن تعديلها وتغييرها حسب الضرورة القائمة والطارئة إلا الدستور فهو يتميز بصفة "الاستقرار" لأنه يلتصق بتسيير وتناغم أمة بأكملها، وعليه فالدساتير المحترمة تكتب بشكل نهائي تقريبا ولا تخضع إطلاقا للمزاج أو السعي خلف تحقيق منفعة سياسة ضيقة، فلنتأمل مثلا دساتير الأمم التي تحترم نفسها، والدستور الجزائري لم يعرف مثل هذا الاستقرار، الأمر الذي جرده من "قدسيته" بالنسبة لأبسط مواطن جزائري، ولا يمكننا الحديث عن دستور جزائري حتى تتوفر له عوامل الإستقرار طويل المدى، وتضمن له حصانة قانونية وشعبية لا يمكن لأحد مهما كان، مجرد التفكير في تعديله لأن العملية معقدة بكل بساطة، وعن التعديلات الأخيرة ولعل أبرزها الذي أثار جدلا وأسال حبرا كثيرا عبر كل الروابط الإعلامية المتعددة، هو إدراج وترسيم اللغة الأمازيغية كلغة وطنية، فلا حرج في ذلك لأنها لغة ملك لكل الجزائريين، وما عداها لا يرى أي جديد باستثناء الحدث السياسي الذي أثارته فكرة التعديل. الناقد عمر أزراج: النخبة المثقفة مراوغة، وعلينا الاعتراف بتاريخ الجزائر بَدَل الاهتمام بالشكليات ووصف الكاتب والشاعر والناقد عمر أزراج، مصطلح "النخبة المثقفة" في الحالة الجزائرية ب"المرواغ" وشديد الغموض، وهو بمثابة الغابة التي تخفي تنوَع الأشجار والنباتات وأشياء الطبيعة الأخرى، فمن المفترض أن النخب المثقفة تتفرع إلى مجموعات تعمل وفق مشروع واضح المعالم ومسلح بالمنهج والخطة، وتتدخل بشجاعة في عدد من الحقول مثل محو الأمية الحرفية والفكرية والجمالية، والاجتماعية والسياسية، والقانونية، والمهنية ومثل الأخلاقيات، والبناء الاجتماعي، والعلوم الإنسانية بمختلف أنماطها، وفي مجال تنظيم المجتمع، وفي السياسة نظريا وممارسة. مضيفا أن معنى التدخل لا يعني مجرد إبداء الرأي الشفوي أو الكتابي في وسائل الإعلام، أو في التجمعات المختلفة، أو ممارسة الانتقاد لتبرئة الذمة بل هو يعني النزول إلى الميدان لوقف زحف كل أشكال التخلف، والشروع في الوقت ذاته في إنجاز فعل البناء الحضاري على جميع المستويات. فالنخب تتشكل من أفراد مثقفين مثل الأساتذة، والمفكرين، والعلماء، والأدباء، والمهندسين، ورجال الدين وغيرهم ، ويكون شغلهم الشاغل هو تحليل ونقد ثقافة مرجعيات وأسباب التخلف، ثم الانطلاق في بناء الوعي الجديد، والمعرفة سعيا إلى تشكيل الإنسان الجديد، والمحيط الاجتماعي العصري، وقيادة المجتمع باتجاه العقل والتنوير. ففي أمريكا يدعون النخب ب "المتَحدات" العلمية، والفكرية، والثقافية، والفنية التي تتكفل بإبداع نماذج المعرفة المتطورة التي تتحول إلى أسلوب منهج في الحياة الوطنية. فإذا كان مفهوم ودور النخب هو هكذا فإن الجزائر لم تبرز فيها هذا النوع من النخب حتى الآن والدليل على ذلك هو أننا لا نرى أمامنا مثقفين يلعبون دور قادة الوعي النقدي الجديد، وناشري المعرفة المتطورة والمدافعين عن فكرة تحديث العقل والسلوك، ويبدو واضحا أن المثقفين الجزائريين لم يصبحوا بعد نماذج وقدوة تلهم وتقود الشعب نحو التقدم، فهم لا يدافعون عن أي شئ بل يكتفون بالتفرج على التخلف الذي يخنق المجتمع، وبعبارة أخرى فهم مثقفون بلا قضية ولا مشروع ولا منهج. وعن الدستور المعدل، قال أزراج أنه قد أثار كثيرا من الغبار السياسي في هذه الأيام، ويرى بكل صراحة أن مشكل الجزائر ليس في الدستور أو في المواثيق، لأنه من الأفضل لنا أن نتجنب الغرق في "الشكليات" والبذخ السياسي، ونحن في حاجة إلى ضخ المياه في الوطنية التي أصابها التصحر وتكاد أن تصاب بإعاقة الجفاف، كما أننا في أمس الحاجة إلى رسم معالم مشروع الدولة الحديثة المتطورة ماديا وأخلاقيا وثقافة، وبحاجة إلى بناء مجتمع الثقة بين المواطن والمسؤولين بما سيؤدي إلى خلق مناخ يكون فيه ازدهار الحريات سيد الموقف، مشيرا إلى شعوره بالإحباط عندما نختزل الدستور في "الخوف" على الهويَة وكأننا شعب بلا تاريخ خرج توَا من الربع الخالي، فينبغي علينا أن نفهم وأن نجدد الفهم أن الشعب الجزائري له تاريخ وهذا التاريخ هو بوصلة هوَيته التي يجدر بنا أن ننشط عناصر التقدم والشجاعة والوطنية التي هي كنوز هذا التاريخ وهذه الهوية. الدكتور سعيد بوطاجين: الثقافة لا تحددها الدساتير والدول المتخلفة تعتبرها عدوّا وذهب الأستاذ الدكتور سعيد بوطاجين، إلى أن الثقافة لا تحددها دساتير ومراسيم بقدر ما تحددها الممارسة الفعلية، ووجهة نظرنا كمجتمع، لهذا العنصر الذي يمد جوهرا في أي مجمتع له رؤية متقدمة للأشياء، فهناك مجتمعات معروفة تخصص ميزانية ضخمة لهذا الجانب، ذلك لأنها ترى أنه يتعذر تحصين البلد وترقيته من دون الاستثمار في العقل والبحث، وفي كل الجوانب ذات الصلة بالوعي، وبالمقابل فإن الدول المتخلفة تنظر باستمرار إلى الثقافة كمناوئ وَجَب وضع حد لظهوره وهيمنته. وأضاف بوطاجين، أن ما يرد في الورق لا يمكن الاعتماد عليه أبدا ما لم ينتقل إلى الواقع الفعلي، وهناك قرارات سابقة ودساتير أشارت إلى أهمية الثقافة من الناحية النظرية لكنها لم تساهم كثيرا في دعمها، ما عدا في السياقات المحدودة في تاريخنا من الإستقلال إلى غاية اليوم. الدكتور عبد القادر رابحي: العلاقة بين المثقف والمجتمع غير واضحة وقال الناقد والأكاديمي الدكتور عبد القادر رابحي، بأن السؤال الذي تطرحه "الجزائر الجديدة" في استطلاعها عن مدى تواجد النخبة المثقفة في الحياة الاجتماعية والسياسية، بأن الطريقة التي صيغ بها السؤال تجعله يطرح إشكالية على درجة كبيرة من الأهمية لأنها تضع المثقف في صلب الحياة الاجتماعية بما هي تعبير عن الحياة ككل، وعن الحياة بوصفها فعالية يشارك فيها المثقف بدرجة كبيرة إن لم يكن هو محركها الأساس. وأضاف رابحي، أن ثمة فرق كبير بين ما يطرحه السؤال وما يقدمه الواقع من علاقة متشظية وغير واضحة بينهما. فالمثقف عضو في المجتمع بالأساس وهو بذلك يلعب دوره في هذا المجتمع. غير أن نوعية الدور الذي يلعبه ربما لا يتناسب مع مكانة المثقف ومع الصورة التي يحملها المجتمع عنه. فمن جهة ينتظر المجتمع من المثقف أن يكون مؤثرا بدرجة كبيرة في حركيته ومن جهة أخرى نجد أن ثمة عوائق كثيرة تمنعه من تحقيق هذا الدور ينتجها المجتمع نفسه ويضعها حواجز في وجهه. ويتساءل الدكتور "هل يخطئ المثقف في قراءة مجتمعه؟"، ثم يضيف بأن الأكيد من أن الإجابة ستكون بنعم إذا ما نظرنا إلى مستوى السقف الذي وضعه المثقف لنفسه في هذا المجتمع الذي يعيش فيه، وهو سقف يكاد يكون مسالما وباحثا عن توافق سلبي مع ما يتنجه المجتمع من حالات يعرف المثقف جيدا أنه لا يملك مفاتيح حلها أو المساعدة على حلّها، ولعله لذلك يركن المثقف - في صورته السلبية الأكثر تسويقا بين أفراد المجتمع- إلى البحث عن توافقات نظرية يستطيع من خلالها أن يعبر تراكم المشاكل التي ينتجها المجتمع عادة..وهذا في حد ذاته دور أقل ما يقال عنه أنه سلبيّ. الأديب عبد العزيز غرمول: الدستور باطل والنظام يحاول استخدام النخبة المهاجرة من جانبه أشار الأديب والإعلامي عبد العزيز غرمول، أنه من منطلق أن الدستور متمخض عن هيآت غير شرعية فهو باطل، من مبدأ "ما بني على باطل فهو باطل"، ولا يرى أن مواده ثابتة فلقد ولد ميتا والمصادقة عليه في البرلمان غير شرعية، وسيموت لذا هو لا معنى له، مضيفا أن الدستور فيه مادة فيما معناها "حق المواطن في الثقافة" وهذا دليل على أنهم منفصلين تماما عن واقعهم ودليل على عدم التجديد، فبدل ذلك يجب عليهم توفير آليات وأدوات التثقيف، فحتى مسألة الأمازيغية لم تُثر إلا استرضاءً لأطراف سياسية ولجلبها من طرفهم. وتابع غرمول، أن مشكلة النظام تكمن في اكتشافه أن النخبة لا تتماشى معه ومقاطعة تماما للعمل الجمعوي والسياسي والثقافي، لذلك يحاول تحريضها على العمل معه، علما أن ثقافتنا هي ثقافة مهاجرة فكيف تُهجر نخبة ثم يتم استدعاؤها للعمل بعد قطيعة. الروائي فيصل الأحمر: الثقافة الدينية منعت انخراط المثقفين في المجتمع وصرّح الروائي فيصل الأحمر، أن النخبة المثقفة لا تقوم بدورها، وهي منسحبة من الفضاء السياسي، لذلك تجد نفسها على الهامش أمام أي حدث سياسي كمناقشة الدستور مثلا، مضيفا أن المثقف لابد أن يكون عضوا في المجتمع كما نادى به المفكر والفيلسوف أنطونيو غرامشي، فعلى المثقف أن يكون ناشطا في النشاط الجمعوي وكذا اعتلائه مناصب إدارية. ومن جهة أخرى أشار الأحمر إلى انتشار الثقافة الدينية في الأوساط المثقفة والتي تقف في وجه انخراط المثقف في المجتمع، مضيفا أن اليسارية هي الوحيدة التي اندمجت في الحياة السياسية والاجتماعية، لكنها حاليا تعيش حالة انتكاسة، حيث كانت مُستهدفة خلال العشرية السوداء وأغلب المثقفين اليساريين غادروا البلد، مشيرا أن الجامعة هي الغائب الأكبر وتعيش حالة عقم. الأديب علي ملاحي: الدستور بالنسبة للمثقفين غامض لأنه لم تتمّ استشارتهم وانتقد الدكتور الأديب علي ملاحي التهميش الذي يطال المثقف الذي يعيش حالة عزلة، حيث أن هذا الأخير لم يُستشر في الدستور وشريحة كبيرة من المثقفين لم تطّلع عليه بعد، لذلك فالبنسبة لهم هو غامض. وأضاف ملاحي أنه يكفينا بصفتنا مثقفين، أن الكلمة هي التي تشغلنا ويشدنا الإبداع إليه بصورة حيوية تدفعنا في كثير من الأحوال إلى التعبير بروح صادقة أن نجد في هذا الدستور المادة 22 التي تكفل لنا الحق في أن لا يُنزِل علينا مسؤول من المسؤولين سلطته بشكل متعسف، وتكفينا المادة 36 التي تضمن لنا حرية التعبير والابتكار الفني والعلمي ويكفينا أن لا تخضع مطبوعاتنا للمساومة والمساءلة من أي جهة أو جهاز، وتكفينا أيضا الحرية الأكاديمية التي تعطينا المناعة في الدخول إلى عالم البحث العلمي وممارسته في إطار القانون، وتكفينا أيضا فوق ذلك هذه النية القوية التي ينبني عليها نص المادة 38 التي تضمن للمواطن الحق في الثقافة تحت رعاية الدولة التي تحمي تراثنا وتراث أسلافنا، وجميل أن يكون المثقف لقمة سائغة لجهات تمتص دمنا وتستعبدنا وتستغل أفكارنا بطريقة متعسفة، والدولة تسهر من الآن على السمسرة الكبيرة التي غذت لعب المتاجرين بالحزبية من خلال انتقالهم من حزب إلى حزب مرة في اليوم الواحد، الأمر الذي عزز ثقافة البيع.