بقلم مقداد إسعاد – باحث في العلاقات الجزائرية الفرنسية قد يكون الجزائري أكثر العرب من له صلة بالانتخاب، فكيف ذلك؟ هي قصة قديمة تبدأ قبل تاريخ الانتخاب أصلا. يوم 01 جويلية 1962 قال الجزائري:"أنا أنتخب أنا موجود" لو علم الجزائري اليوم أي ثمن دفعه أجداده من أجل الحق في الانتخاب لما سخر منه وقاطع. الانتخاب هو آلية ظهرت مع نظام الجمهورية بالثورة الفرنسية; هذه الأخيرة لم تلغ نظام الملكية في البداية واكتفت بإلغاء الامتيازات الملكية وبانتخاب جمعية تأسيسية يعود إليها الملك وجوبا في وضع القوانين. عرفت الدول الأوروبية الأخرى تطورا مماثلا لكن جديد الثورة الفرنسية كان اعتمادها النظام الجمهوري بتاريخ 21 سبتمبر 1792 بعد خلع الجمعية الوطنية للملك لويس السادس عشر، والذي وقع إعدامه بعد ذلك. تآلبت الأنظمة الملكية في أوروبا وتحالفت ضد فرنسا الجمهورية، فوجدت في الجزائر حليفا قويا ومهما تدافع عنها وتوفر لها المواد الأساسية وفي مقدمتها القمح وبالدفع المؤجل. كتبت صحيفة لوميتور وقتها: "بينما تتحد أوروبا ضد فرنسا الحرة، هناك قوة عظمى إفريقية (الجزائر) هي أكثر مؤازرة لها، تعترف بثورتها وتخلص لها"، ذلك أن الجزائر كانت لها علاقات قوية مع فرنسا منذ القرن السادس عشر، ولعله للطابع الجمهوري للحكم أيضا، فأيالة الجزائر تصنف ضمن الجمهورية المبكرة وقبل وقتها، نظرا لاعتمادها على الانتخاب وليس على الوراثة في تعيين حاكمها. لا شك أن عدد الناخبين كان محدودا إذ كان يقتصر على الجيش والأعيان، لكن الانتخاب في فرنسا كان أيضا كذلك وأخذ يتوسع ببطء كبير، لم يشمل المرأة إلا بعد الحرب العالمية الثانية. الاقتراع العام لم تصل إليه البشرية إلا بعد مراحل كثيرة. عرفت كل المعمورة الانتخاب، حتى الشعوب المستعمرة منها، لكن الجزائر مثلت استثناء. استعمرتها فرنسا على إثر هزيمة جيشها يوم 4 جويلية 1830 غرب الجزائر العاصمة. استسلم حاكمها الداي حسين وغادر بلا رجعة إلى مدينة نابولي الساحلية بإيطاليا. بقيت البلاد دون حاكم شرعي وآل الأمر إلى والي قسنطينة شرقا فصمد، هذا لكن الجزائر تنتمي إلى أمة إسلامية عرفت الحضارة وساست البلدان لها رصيد وباع في نظرية الحكم… أجمعت في شكل انتخاب على حاكم جديد من أصل وعمق الجزائر، شاب لم يتجاوز الثانية والعشرين، مثقف، خبير، سافر إلى الحجاز وأدى فريضة الحج باكرا، كما زار القدس الشريف، أجمع عليه أعيان البلاد فقاد الجهاد ضد المستعمر حتى اضطره إلى طلب الصلح وأبرم معه معاهدة "التافنة" بتاريخ 30 ماي 1837. اعترفت فرنسا للأمير عبد القادر الحسيني بسيادته على ثلثي أرض أيالة الجزائر غربا، أسس عليها دولة، وحّد القبائل، كوّن جيشا وضرب العملة ونصب محكمة وبعث الرسل والممثلين وكاتب حكام وملوك العالم… كان انتخاب الأمير عبد القادر هو آخر ما استفتي فيه الشعب الجزائري حول حاكميه. تواصل الانتخاب كآلية لاختيار الحاكمين من الشعوب ومثلت الجزائر استثناء. الاقتراع العام ممارسة نمت مع الثورة الفرنسية كآلية مستلهمة من فكرة العقد الاجتماعي خاصة في كتابات الفيلسوف جان جاك روسو وأيضا كتابات فولتير ومونتسكيو وغيرهم، هذا، لكن فرنسا التي جاءت إلى الجزائر "لتنشر فيها الحضارة والنهضة"، حبست شعب الجزائر أو ما تبقى منه، وقد أبادت ثلثه في الأربعين سنة الأولى للاستعمار بفعل القتل والتجويع وتهديم بناه الاجتماعية والاقتصادية، جعلته في وضع قانوني ليس له مثيل في تاريخ الأمم. كان الجزائري وهو من مكونات فرنسا حسب قانونها، هو من رعايا الملك الفرنسي (regnicole) في مقابل مصطلح قانوني آخر وهو الأجنبي أو الخارجي (aubain)، ومع ذلك لم يكن للجزائري حق الانتخاب، الذي كان حكرا على العرق الأوروبي وهو خليط من منحدرين من بلدان من جنوب أوروبا، معظمهم من بسطاء الناس جيء بهم لزيادة عدد الأوروبيين، بقي العدد ضئيلا فاقترح بعض الساسة الفرنسيين أن يجمعوا مجانين أوروبا ويؤتى بهم للجزائر، كما فتح الباب على مصراعيه تحت دعاية وتشجيع كبيرين لرجال الدين المسيحي، كان هذا الخليط كله له حق التصويت في الاقتراع العام إلا العنصر الأصلي وصاحب الأرض. يوما بعد يوم وسنة بعد سنة كانت رغبة الجزائري في ممارسة حقه في الانتخاب تزداد حتى سيطرت عليه ومثلت لديه حاجة قوية بل ومحفزا له ليكره المستعمر ويستميت في الكفاح لطرده، وجاء مرسوم وزير العدل "كريميو" اليهودي الديانة سنة 1870، ليزيد شريحة أخرى لمن يحمل الجنسية الفرنسية بكامل الحقوق ومنها حق الانتخاب، وهي الجالية اليهودية الجزائرية، وبقي الجزائر خارج الزمن. يقول الممجدون للاستعمار أنه كانت له مهمة حضارية ومزايا كثيرة على الشعوب المستعمرة. نعم صدقوا، لكن هذه المزية ليست كما يصفون بذكر إنجازات مادية من بنى تحتية وحتى أدوات إدارية وتكنولوجية، كل هذه تبقى دون قيمة أمام مكسب عظيم أخذه الجزائريون من دون رغبة ولا تخطيط من المستعمر، وهو "الرغبة في الحياة الكريمة" مثل "الانتخاب"، أي ما شاهد لعقود طويلة العنصر الأوروبي يتمتع به وهو محروم منه، وقد علم محاسنه وهو محروم منه، حرمان دام طويلا وطبع الجزائري إلى الأبد، كان الأوروبي المسيحي واليهودي في الجزائر نشيط، حي، يتحرك، ينتج ويعمل، بمؤسساته الاقتصادية والعلمية ومدارسه ونقاباته وصحافته الحرة، ولم يكن الجزائري بعيدا، بل كان يعيش معه، لكنه كان دونه حرية وحقا، واجباته كثيرة وأعباءه أيضا لكن حقوقه مهضومة، كان يحس ويفكر ويتطلع… خسر الجزائري الكثير، لكنه تعلم الكثير، شارك بقوة في الحرب العالمية الأولى ودفع ثمنا باهظا في الدفاع عن فرنسا ضد ألمانيا. كانت السنوات العشرين من القرن الماضي حبلى بالوعي وتنامي الحس الوطني خاصة لدى النخبة، ولم يكن الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية إبان الاعتداء على الجزائر بعيدا، حيث كان حفيده الأمير خالد يرفع صوت الجزائريين إلى الرئيس الأمريكي "ولسن"وهو في بداية تأسيس "عصبة الأمم". وراح الجزائريون في إصرار نادر يطالبون بحقوقهم.،لا توصد فرنسا أمامهم بابا حتى يفتحوا آخر خاصة من خلال العمل النقابي والجمعوي، لكن الانتخابات بقيت مستعصية عليهم لاتصالها المباشر بالإدارة. بعد الحرب العالمية الثانية تغيرت الظروف وتحلحلت بعض الشيء لتقبل الإدارة الاستعمارية بالسماح للمسلمين المشاركة في الانتخاب والترشح إلى المجالس البلدية، لكنها زورت نتائجها. تحمس بعض النشطاء في الحركة الوطنية للمشاركة مثل الإصلاحي الصيدلي فرحات عباس، لكنه أصيب بخيبة الأمل واصطف في النهاية ضمن الخط الثوري. جاء الفاتح من نوفمبر 54، ليعطي الجواب الصحيح، الكافي الشافي لإشكال الجزائر الملخص في كلمة "استعمار". ليست القضية في نسبة التمثيل، ولا حتى في الانتخاب برمته، المشكلة في الاستعمار أصلا، يجب أن يرحل، فرحيله فقط هو الضامن للحقوق: في التنظم، والكتابة والنشر، والعدالة، والانتخاب، وكذلك كان، لا فائدة ومن اللوم والعتاب. يا فرنسا قد مضى وقت العتاب ** وطويناه كما يطوى الكتاب**إن في ثورتنا فصل الخطاب اضطرت فرنسا الاستعمارية أن تجلس إلى طاولة الحوار مع "الفلاقة". وضعت لهم طاولة مستديرة كتلك التي يتحلق حولها الأحباب والأصدقاء، لكن الوفد الجزائري المفاوض بقيادة كريم بالقاسم، تعلم وفهم القانون واللغة إلى حد رمزية الأشياء، رفض لها ذلك وطالب بطاولة مستطيلة يجلس كل طرف مقابل الآخر في ندية تامة ومن دون اختلاط في حوار السيادة ذاك. محاورون أحذيتهم ملمعة ولباسهم لائق وملفاتهم مرتبه على أرض فرنسا يحميهم جنود في جبال ومدن الجزائر لم يضعوا سلاحهم. انتهت "اتفاقيات إفيان" بالإعلان عن وقف الحرب وأيضا تنظيم انتخابات في اتجاهين: الأول يخص الفرنسيين من دون المقيمين في الجزائر، وهذا لم يكن المفاوض الجزائري يهتم به، ولا يرغب أصلا في استفتائه، أما الموعد الانتخابي الآخر فمهم جدا. مهم من حيث الناخب والتاريخ، وخصوصيته أنه جديد، لم يعرف له الجزائري مثيلا، ثم إنه كلفه ثمنا كبيرا، افتكه بعد قرن ونصف القرن بالدماء الغزيرة، لذلك كانت له نكهة بثمنه، لو بعث جيل 62 ورأى عزوف الجزائريين عن الانتخاب لأصيب بالدهشة، كيف انقلبت الأمور؟. أوكل أمر تنظيم الاستفتاء إلى فرنسا، ووجد فيه الجنرال الفرنسي ديغول ما يشغل به نفسه وما يتحدث به بل ويتباهى بنزاهته. هذا، أما الطرف الجزائري فقد ترك له المهمة وذهب لشأن آخر هو إعداد مؤسسات ما بعد الاستفتاء وانبعاث الدولة الجزائرية الحديثة، كان ذلك يوم 1 جويلية 1962. انتهى الفرز بعد يومين وتأجل الإعلان إلى يوم 5 جويلية ليتزامن مع نفس التاريخ ل132 سنة خلت، هو تاريخ بداية الاستعمار. الانتخاب في الجزائر له طعم فريد، هو حق لم تتفضل به دولة عليها، كما أنه لم يأت بمبادرة من أي هيئة دولية، بل افتكه الجزائريون بإصرارهم ودفعوا من أجله بلا حساب من دمائهم، وكانت النتيجة أكبر بكثير من المنظر، وأكبر بكثير من نتيجة استفتاء، بل كانت تأسيس دولة وميلاد جديد لأمة. لقد أخرست انتخابات 1 جويلية 62 كل الألسن المغرضة والمشككة في وحدة الشعب الجزائري. لم يبق عند المشككين حجة لا في نوعية الساكنة المستفتاة ولا في عددها ولا أيضا في عنوانها، حيث غطت تراب الجزائر ضمن حدوده الجغرافية المثبتة بمواثيق واتفاقيات دولية مسجلة وموثقة… كل ذلك تقوم به فرنسا مرغمة صاغرة، بل مبتهجة فرحة أنها خرجت من ورطة وضعها فيها ملك فرنسا من 132 سنة خلت. هل عرف العالم شيئا مثل هذا؟، اسألوا المؤرخين ولا شك أنه سيجمعون أن الجزائر ليست كأحد من الكيانات السياسية. هي كما قال شاعرها، صاحب الياذتها: * جزائر يا مطلع المعجزات ويا حجة الله في الكائنات يوم 20 سبتمبر 1962 تكوّن المجلس التأسيسي لمدة سنة واحدة لوضع دستور للبلاد من 196 عضوا، أعلنوا حل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي قادت العمل السياسي والمفاوضات وأسسوا "الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية"، وطلبوا الاعتراف بها في المحفل الدولي كالدولة 109 العضو في الأممالمتحدة. الخلاصة والدرس: قدسية الاقتراع، قدسية صوت الناخب، وأيضا أهمية الانتخاب. إن صناديق الانتخاب هي محاضن الإنسان، لا يجوز الاعتداء عليها، إن ورقة الانتخاب ليست قطعة من ورق بل حامل رأي وشخصية، عصارة وجود وهوية وقناعة، لا يعتدي عليها إلا جاهل بقدرها وبقيمة الإنسان أصلا، لا يجوز أن تلامسها أو تجاورها ورقة التزوير التي يلقي بها خلسة إداري مأجور أو متحزب جاهل… هذا في العالم عامة، أما في الجزائر فشأنها أعظم لما سال في سبيلها من دماء الشهداء، مزور الانتخابات عامة وفي الجزائر خاصة تافه، لا مروءة له، جاهل لا فهم له، كاذب لا وطنية له، خائن للوطن وكفى. ومن المفارقات أن هذا القمح الجزائري تأخر دفع ثمنه حتى أصبح سبب خلاف حاد بين الدولتين، وصل إلى حادثة المروحة الشهيرة، ثم محاصرة البحرية الفرنسية لعاصمة الجزائر سنة 1827 واستعمارها ثلاث سنوات بعد ذلك. Républicole مقابل مصطلح الذي استعمله لأول مرة بعد الثورة الفرنسية الكاتب جون باتيستبرودون، والذي دخل القانون المدني في عهد نابوليون الأول سنة 1804 عدد المسجلين 6549736 – عدد الناخبين: 6017800 – عدد الأوراق الصالحة: 5992115 – عدد الأوراق الملغاة: 25565 – عدد نعم: 5975581