مراكز البحث الإستراتيجي و"المنظومة الدينية" (الحلقة الخامسة) بقي السؤال المفتوح في نهاية الحلقة السابقة عن الحاجة إلى التجديد بالنسبة للرؤية الأمنية السعودية في مجابهة التطرف ومحاربة الإرهاب والهاجس الأساسي بالنسبة للمشتغلين: ماهي ميكانيزمات "نقض فقه الدماء" والحفاظ في نفس الوقت على "المنظومة الدينية" التي هي المحدد الطابع الأساسي للملكة السعودية؟ * "الوهابية الناعمة" والمستقبل وهذا الحراك تجلى في بعض المواقف المتقدمة لبعض الشيوخ الدينيين، كما أن تعبيرات الحركة الأدبية ملمح لذلك بحكم ان "العمل الجمالي والفني" يكسر دوما الطوق لأنه يشترط مناخ الحرية في القضاء العام، إضافة إلى عامل التطورات الدولية والإقليمية التي تجعل من التجديد والانتقال إلى شعار "الإسلام للجميع " الذي تبنته رابطة العالم الأسلامي (أنظر الحلقة الثالثة) من هذه السلسلة، وهو تلوين ربما لمستقبل "وهابية ناعمة" حاولت دولة قطر السعي إليه ولكن بحكم قوة المملكة في الخليج والعالم الإسلامي هي في نظري التي تستطيع القيام بذلك، وبحكم أيضا الأجيال الجديدة في المملكة والمتكون أغلبها في بريطانيا والغرب، والصراع في المنطقة هو الذي أفرز مثلا ظهور تيار الجامية- المدخلية الذي تأسس على سؤال سياسي – عسكري هل يجوز الاستعانة "بالكافر" عسكريا في الحرب الخليجية الثانية واحتلال العراق للكويت في "حرب الخليج الثانية" وقد تصدى للدفاع عن جواز الاستعانة بالأمريكان "محمد أمام الجامي" رحمه الله كما نافح عن "تحريم الخروج عن الحاكم" ملتزما في ذلك برأي الحنابلة والأوزاعي وتمدد هذا التيار مع تلميذه ربيع هادي المدخلي، وتقريبا اليوم اختفت تسمية " الجامية" أمام "المدخلية" التي انتشرت أيضا في بلدان شمال أفريقيا ومصر،. إن الشرط التاريخي كفيل بخلخلة في المفاهيم والتصورات على اعتبار أيضا أن أصل ظهور "الفرق والملل والنحل" في تاريخنا الإسلامي كان أصلا حول "الإمامة" أي السلطة بمفهومنا اليوم ويفتتح كتاب "التاريخ النحلي" بحادثة صفين "الحرب التي كانت بين الأخوة"، ومن هنا سوف نشهد تغيرات داخل "نسقية المذاهب الدينية اليوم" بحكم الصراع والتغيرات في المنطقة، وقد تناولت هذا الموضوع في كتاب جماعي عن "السلفية والتأويل" صدر عن مركز "المسبار للدراسات والبحوث" الذي يديره تركي الدخيل في الإمارات العربية وهو مركز تخصص في دراسة الحركات الدينية والجهادية، وانتقال بعض النخب السعودية لدبي شكل حركة أدبية وفكرية نحو السعي من أجل التجديد وقد رأى مثلا بعض الشيوخ في نشاط "منتدى تعزيز السلم في المجتمعات الاسلامية" ومقره أبوظبي يرأسه الشيخ عبدالله بن بية الذي يدرس بالسعودية ويتشكل مجلس أمنائه من بعض شخصيات علمية خليجية منهم الدكتور فيصل بن معمر ممثلا عن "مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز للحوار بين أتباع الأديان بالسعودية"، ويحضر لقاءاته من الجزائر الشيخ مشنان محند ايدير إطار بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف، هذا الاستثمار من هيئات فردية ودولية وتنظيمية في ترسيخ قيم السلم والوسطية ومجابهة التطرف والغلو والإرهاب هو وظيفة تنقية "السنية" أو مذهب "أهل الجماعة" مما لحقه من "تأويل فاسد" للجهاد وتطبيق حكم الله، وسحب "الشرعية السلفية" من الجماعات الداعشية.
* مراكز التفكير الرصينة: Think tanks منذ ما قبل ما يسمى "الربيع العربي" سعت بعض الدول الخليجية إلى الاستفادة من التجارب الغربية في تأسيس مراكز بحث إستراتيجية تساهم في صنع القرارات السياسية والتأثير على الرأي العام، بحيث ان بعض مراكز البحث العربية والمخابر هي صورة للجامعات وتخلط بين التكوين الذي من مهام الجامعات والبحث من أجل متطلبات الواقع والسياسات العامة، للأسف في بلدان عربية هناك انزاف مالي لمراكز ومخابر علمية أشبه بالساعات الإضافية وتحول بعضها إلى مؤسسة لتقليص بطالة أصحاب الشهادات الجدد مثل ماهو عليه الحال في الجزائر . توجه بعض بلدان الخليج نحو ذلك والاستفادة من الخبراء العرب والغربيين يجعل من "المراكز التقليدية" أما تنحو نحو هذا التوجه او تبقى محكومة بآليات لا ترهن نفسها فيما هو متحول إذ قد ينسف بموقعها التاريخي، من المراكز المؤسسة في ظرف قياسي "مركز التحالف الإسلامي العسكري" بالرياض مؤخرا أثناء زيارة الرئيس الأمريكي ترامب، كما من المنتظر ان يهتم "مركز فيصل للدراسات والبحوث الاسلامية" بالمواضيع السياسية والإستراتيجية ويكون ضمن أولوياته الراهنة مجابهة التطرف ومحاربة الإرهاب، وقد حضرنا في السنتين الأخيرتين بعض مؤتمراته وندواته وهو ما سيكون موضوع الحلقة القادمة بحول الله.