الإمامة أو الحكم، وقع بسببها أعظم خلاف في الإسلام، وأريقت دماء، وانتهكت أعراض، وسلبت أموال، ووقعت فتن عظيمة، كادت تودي بالأمة، حتى تعطّلت الفتوحات والجهاد، وطمع العدو الخارجي في ديار المسلمين، وكما قال الشهرستاني: " أعظم خلاف بين الأمة، خلاف الإمامة، إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية، مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ مكان"- (الملل والنحل 6). وكان الخلاف حول الإمامة أو الحكم، السبب الرئيسي في ظهور الفرق، فظهرت الخوارج في أواخر فترة عثمان رضي الله عنه، وفي عهد علي رضي الله عنه، وكانوا وراء الثورة ضد عثمان رضي الله عنه وقتله، ووراء قتل علي رضي الله عنه، ووقعت منهم فتن كبيرة لم تخمد نارها حتى أنهكت الدولة الأموية، ومهدت لزوالها، واستمرت تنخر الخلافة العباسية، وأسست إمارات بعد ذلك، كإمارة الرستميين في تاهرت بالجزائر، كما ظهرت الشيعة في مسرح الأحداث معتقدين أن الإمامة من الدين، وأنّ رسول الله لم يمت حتى وصّى، وقالوا باستحالة أن تبقى الدنيا من دون وصيّ، عرفه من عرفه وجهله من جهله، وتمكّنوا كذلك من إقامة إمارات، وخلافة فاطمية بعد ذلك في مصر، وظهرت المرجئة كفرقة متأثرة بنتائج ومآلات الحروب ضد الحكام، فقالت لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر الطاعة، وكانت المرجئة حركة سلبية تجاه الأحداث القائمة، لا تؤمن بالثورة أو الخروج. فالخوارج رأوا أن الإمامة تكون من اختيار عامة الناس، وليس شرطا فيها القرشية، والحاكم مستمر في الحكم متى عدل، فإن جار يعزل بالسيف، والشيعة قالوا بأن الإمامة وردت نصا، ولا تصح إلا من أهل البيت المنصوص عليهم، ورأوا أن القتال يكون مع ظهور الإمام المخفي، أما المرجئة فرأت الإمامة في قريش، بحكم الواقع لا النص، ولم تؤمن بالثورة أو تغيير الحكام بالقوة أوالسيف. وقد ثار الصحابي عبد الله بن الزبير في جملة من الصحابة، ضد حكم بني أمية، كما ثار الحسين رضي الله عنه ضد يزيد، وثار زيد ضد هشام بن عبد الملك، وثار القراء وفيهم الفقهاء، كالشعبي، ومالك بن دينار، وسعيد بن جبير، ضد الحجاج، بقيادة عبد الرحمان بن الأشعث، وثار محمد النفس الزكية ضد المنصور، وثبت بلا خلاف أن بعض الصحابة والتابعين والفقهاء ثاروا ضد الحكم الظالم، ورأى أغلبية الصحابة والتابعين عدم الثورة تمسكا ببعض النصوص، ونتيجة المآل وما ترتب على الخروج من مفاسد، وفتن في الدماء والأموال والأعراض، فكانت عقيدة أهل السنة في الباب أو رأيهم السياسي: " ولا نرى الخروج على أئمتنا، وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله فريضة، مالم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة "، كما جاء في الطحاوية المعبّرة عن اعتقاد السلف. وفي عصرنا الحديث، ثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب ضد الحكومة التركية والمصرية، وأجاز قتالها بناء على وصفها بالشرك، وقد كتب حمد بن عتيق، أحد أعمدة المذهب الوهابي، كتابا سمّاه " سبيل النجاة والفكاك في قتال المرتدين والأتراك "، وقد جاء في (الدرر السنية 9/23)، وهو مرجع رسمي للفكر الوهابي: " قتال الدولة- يعني المصرية والكافرة والأتراك – والإفرنج، وسائر الكفار، من أعظم الذخائر المنجية من النار". وفي (عنوان المجد في تاريخ نجد) لابن المبشر، مؤرّخ الوهابية، حقائق وشهادات في قتال وقتل المسلمين، بتهمة الشرك والردة والضلال. وبعد أحداث الخليج الثانية واستقدام القوات الأمريكية لشبه جزيرة العرب، ظهرت احتجاجات فكرية قوية وتململ مما حدث، بل وحوكمت الدولة السعودية على أساس فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فحكم بعض المشايخ بخروجها عن منهجه، كيوسف العييري الذي قتل في الرياض سنة 2003، وكما قال بذلك بن لادن وأيمن الظواهري وغيرهما. وبسبب هذه الأحداث الجسام ظهرت الجامية والمدخلية، في محاولة للدفاع عن الدولة السعودية، وتراث الوهابيين، وعملت جهدها على عدم انكشافه للشباب، فرمت بكل ثقلها تجاه فكر الإخوان المسلمين، وحمّلته كل نقيصة وجميع أسباب المآسي، وصنعت من فكر ولي الأمر عقيدة تتمحور حولها كل التفاصيل وكأنها من العقائد، ومارست ضغطا وتزييفا للحقائق، وتلاعبا بالتاريخ، وانتقائية في نقل النصوص والشواهد، بل ومارست الكذب والزيف من أجل الدفاع فقط عن حكام السعودية كأولوية، ومن أجل ذلك قامت بحرب استباقية في أوطان العرب والمسلمين، تنشر فكر المبتدعة،وهم الذين يخالفونهم وتوسّعوا في ذلك توسعا مذموما، واقتربوا من تقديس الحاكم، فلا يجوز معارضته حتى بالقلب، أمّا النصيحة له فلا تكون إلا سرا، ومن أهل الخير والولاء من العلماء والفقهاء فقط، والحاكم هو الأعلم بالواقع والأدرى بتفاصيله، فيسلّم له الأمر كله، إن دعا إلى الجهاد في أفغانستان أو البوسنة أو الشيشان، فهو جهاد شرعي، وإن لم يدع كالحال في فلسطين فلا جهاد هناك، إن أعطى أموال المسلمين للكفرة والملحدين فهو أعلم وأدرى بالمصلحة، وجوّزت المدخلية التخابر لصالح ولي الأمر، ونقل خبر أي مواطن يبدو من ملامحه أنه غير راض عن الحكم، وتوافقت مع الحاكم على القمع، فالحاكم يسجن ويعذب ويقتل، وهي تبرر بالفتوى وتستعمل الدين وتستدعي من الماضي نعوت الوصف بالبدعة، ولم تكتف بذلك حتى وصفتهم بمصطلح جديد وهو الإرهاب، تماشيا مع أهداف أمريكا وإسرائيل وحلفائهما. وتكاد المدخلية تجعل من موضوع ولي الأمر موضوع عقيدة، فهاجمت حتى الدول التي اختارت شعوبها عن قناعة وبالتراضي الديمقراطية وقالوا بكفر الديمقراطية، وضلال الانتخابات، التي تسوي بين الكافر والمسلم، والذكر والأنثى، وذمّوا وبدّعوا كل ما عليه هذه الدول من صيغ عصرية جديدة في الحكم، وتناقضوا تماشيا مع أجندات ولي الأمر في ديار النجد، فأجازوا الخروج والثورة على صدام والقذافي وبشار وعلي عبد الله صالح، وكل ذلك تبعا لأجندات أمريكا ومصالح إقليمية، وحاولوا تبرير ذلك بتكفير صدام والقذافي وبشار الأسد ، لكن لم يسلم لهم الأمر، لأنهم من قبل تعاقدوا مع صدام، وكان بطلا سنيا يوم كان يقاتل إيران، وتحالفوا مع حافظ الأسد لما شارك بقواته في الجزيرة ضد صدام. واليوم ونتيجة سهولة مرور المعلومة انكشفت عقيدة ولي الأمر، وأهدافها ومراميها، وأنها مادة استخباراتية بامتياز، هدفها الأول والأخير مصالح الدولة أو العائلة السعودية، والأمة اليوم في مشارق الأرض ومغاربها، مطالبة بحماية نفسها من هذا الفكر الدخيل، بتعزيز هويتها الوطنية في شؤون الدين، والجزائر من هذه الدول التي يجب أن تحمي نفسها بمرجعيتها الوطنية، القائمة على تقدير الفقه المالكي واجتهاداته، والتعايش مع الحركات الصوفية السنية، فتاريخ الدولة الحديثة أسّسه الصوفي الأمير عبد القادر، واستكمل الحلقات الفكرية الشيخ ابن باديس، بسلفية الكتاب والسنة، وبنفس جزائري خالص، وختمت الخير كله ثورة نوفمبر المباركة التي حررت الإنسان الجزائري من الاستعباد والذل.