ومن جهة أخرى، فإن النخبة الحاكمة في المغرب استطاعت تدبير التنوع الثقافي، وتثمين خاصيات التعدد الإثني والعرقي واللغوي، والذي كان من شأن سوء تدبيرهما بفضاءات جغرافية أخرى، انشطار الوحدة الوطنية وتقوقع الأقليات الهوياتية وضياع اللحمة الجامعة بجريرة كل ذلك، والإقدام على إدراج "حريات جديدة" لم يعهد العالم العربي مثيلا لها، من قبيل الحريات الفردية المكرسة لحرية المعتقد على وجه التحديد. هي كلها معطيات معبرة دون شك، بل ولا يمكن للمرء المزايدة عليها أو بشأنها كثيرا، لكن هل يمكن أن تكون التجربة المغاربية نموذجا يحتذى في العالم الثالث، أو على الأقل في الدول ذات الأنظمة الملكية الخليجية خاصة، يطرح هذا السؤال الكثير من الباحثين والمفكرين الذي يتابعون التحول في فكر الحركات الإسلامية . حقيقة المغرب صاغ حقا دستورا متقدما (مقارنة بالدساتير السابقة وبالدساتير العربية أيضا)، لم يكتف بإزاحة القدسية عن المؤسسة الملكية، أو تحجيم دورها قبالة مؤسستي الحكومة والبرلمان، بل أعاد الاعتبار للشرعية الشعبية، لا سيما عندما نص بالواضح الصريح على ضرورة أن تنبثق المؤسسات التشريعية والتنفيذية من صناديق الاقتراع مباشرة، عوض اقتصارها ولسنين طويلة مضت، على تعيينات من فوق هي إلى وضعيات الريع السهل أقرب منها إلى وضعيات الاستحقاق المكلف. كل هذه "الحقائق" قائمة دون شك، لكن ثمة ثوابت عدة تجعلنا نتحفظ على وسم التجربة المغربية، بالنموذج الذي يحتذى به في العالم الثالث وفي المنطقة العربية على وجه الحصر، وهو ماذهب إليه بعض المتابعين للشأن المغربي في دراسة له، حيث أكد الباحث يحي اليحياوي على مايلي: – الثابت الأول أننا لا نزال بالمغرب بإزاء مشهد الاستمرارية الذي يبقي على طبيعة الجوهر ولا يطال إلا جوانب المظهر، بل قل إنه لا يمس المظهر إلا بقدر خدمة هذا الأخير للجوهر، جوهر المنظومة وجوهر الفلسفة الثاوية خلفها. – الثابت الثاني أن الدولة العميقة التي ساد منطقها وتسيد طيلة العقود الستة الماضية، لا تزال سيدة ومتسيدة، إذا لم يكن بالمباشر الواضح، فعلى الأقل من خلال تحكمها في شبكات النفوذ والمصالح التي لا سبيل للتحايل على قوتها وسطوتها، أو الحد من القابلية المتوفرة لدى مكوناتها لتحييد الغرماء كما الأصدقاء، إن تسنى لهؤلاء الوقوف في وجهها أو التطلع لمواجهتها أو النسج على النقيض من سلوكها. – ليس ثمة -هنا أيضا- ما يجعلنا نتبنى أطروحة "النموذج المغربي" اللهم إلا إذا اعتبرنا طبيعة سلوك الدولة العميقة بمثابة نموذج، وهو كذلك فيما نعتقد بمقياس التحايل على إرادة الكتلة الناخبة واستصدار اختياراتها. – الثابت الثالث أنه ليس لهذا "النموذج" من رافعات تشد عضده أو تحمل لواءه، إذ لا تزال النخب القديمة هي التي تؤثث المشهد العام وتعطيه الزخم المعتاد. كيف لنموذج أن يقوم، فما بالك أن يستقيم، إذا كانت روافده المركزية عبارة عن نخب متهالكة، فاسدة، تنشد المناصب والامتيازات، وليس لها أدنى دراية بما هو المشروع المجتمعي أو الإرادة الشعبية أو دولة الحق والحريات؟. يضاف إلى هذه الثوابت الثلاث ثابت رابع يتعلق بأن حزب العدالة التنمية استطاع التكيف مع الوضع الجديد، وتمكن من إقناع الشعب المغربي بأنه الأفضل لتحقيق تطلعاته في التنمية والكرامة، بالرغم من التحديات التي واجهته في بداية وأثناء التجربة، على اعتبار أنه دخل في امتحان تنموي كبير، لكن بضمانه الحصول على الأغلبية في ثاني انتخابات يدخلها دل ذلك على إمكانية تطوير تجربة الحزب وتطوير أدائه رغم أن التنافسية كبيرة، والتحدي عظيم لكن التجارب الكبرى التي تريد الرسوخ لا تنظر إلى التحديات على أنها عوائق بل حوافز للإبداع والتطوير بعد التقييم والتقويم. ورغم محدودية التجربة المغربية في الحكم لأنها تجربة مسقفة بإرادة الملكية والدولة العميقة، أو ما يصطلح عليه في المغرب بالمخزن، إلا أننا من جهة أخرى أمام تجربة لحزب العدالة والتنمية فريدة من نوعها في أحداث التوازن بين الدعوي والحزبي، كما أننا أمام طرح جديد يمكن أن تستفيد من الحركات الإسلامية التي تعيش في الملكيات خاصة، ولما لا تفتح فيه النقاش الواسع بين النخب الإسلامية، ونقصد هنا التنافسية السياسية على خدمة المواطن ببرامج عملية بعيدا على التنافسية على السلطة بمعناها العام، حيث قبل الحزب التنافس في ظل هيمنة المخزن على الخارجية والدفاع والأمن والمؤسسة الدينية العريقة في المغرب، وراح حزب العدالة والتنمية يقارب الوضع السياسي والتنموي في المغرب من هذا المنظور، واستطاع أن يطمئن ويضمن للملك سلطانه وأن لا ينافس على تغيير طبيعة النظام الملكي، ولا ينافس على الرئاسة بل حدد سقفه بنفسه، لكنه راح في المقابل يهيكل نفسه وينتشر ويضيف عناصر قوة جديدة في رصيده السياسي والتجريبي والعلاقاتي على المستوى الداخلي والخارجي، ستجعل منه بلا شك قوة أساسية في المغرب، ويؤكد باستمرار أن الإصلاح يتحقق في المغرب في نطاق الملكية القائمة على أساس إمارة المؤمنين، اعتبارا لخصوصيتها والتحامها التاريخي مع المجتمع وفي التعاون وعدم المنازعة والصراع معها اعتبارا لشرعيتها الدينية والتاريخية والاجتماعية، وكونها رمزا للاستقرار ولوحدة المغرب، وإن التنازع فوّت على المغرب ثلاث عقود كان من الممكن استثمارها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإن أفق الإصلاح والتطوير المؤسساتي ضمن هذا الإطار ممكن وقائم دوما!، وهو ما لم يحدث في تجربة إخوان الأردن مثلا، وهم أعرق تاريخيا من الإسلاميين المغاربة، ومارسوا العمل السياسي والمشاركة في الحكومات والبرلمانات منذ عقود، ولكنهم اليوم في وضع سياسي هش سنعود إليه عندما نتحدث عن التجربة في الأردن. ان إستراتيجية تقوية المجتمع وإيجاد المجتمع العميق والابتعاد عن نفسية إسقاط النظام، هو طريق ومنهج يعتبره المغاربة وسيلة رئيسية في مواجهة الدولة العميقة التي تحدد سقف الإصلاح والتغيير، كما أن استخدام الوسائل السياسية المتاحة والبناء عليها والتدرج في العمل يجعل حسب المقاربة المغربية التغيير ممكنا والتحول إلى الديمقراطية النموذجية أيضا ممرا سالكا وحتى الوصول إلى الملكية الدستورية وحتى الانتقال من الملكية الدستورية ؤلى النظام الجمهوري المكيف ممكنا، كما يحدث في النموذج البريطاني والياباني والماليزي. وقد أفرد الدكتور سهيل الغنوشي، كلاما تأسيسيا في الحديث عن أسرار تجربة العدالة والتنمية المغربي، فقال وهو يتحدث عن قيادة الحزب: لقد ركز التيار مبكرا على المغرب، فتجذر في التربة المغربية وتناغم المشروع والخطاب وحتى المظاهر مع الثقافة المغربية، وغلب البعد الوطني على البعد العالمي، فتجنب مطبات ومتاهات التناقضات الإقليمية والدولية، وإكراهاتها وشبهاتها. لقد أسقط الإسلاميون المغاربة الحكم كغاية، فسقطت المنظومة التي يشكل الحكم فيها حجر الزاوية، وبنوا لأنفسهم منظومة أخرى؛ إصلاح المجتمع وتقدم الوطن فيها الغاية ومعيار التقييم، والحكم بل والحزب نفسه مجرد وسائل. بسقوط الحكم كغاية تقلصت أهمية التنظيم كوسيلة، وادخر التيار الجهود المضنية التي تستنزف التنظيم الحديدي تجنيدا وصهرا وصيانة وتحصينا، فتركز الاهتمام والخطاب على الوطن والشعب، وتركزت الجهود على إقناع الناس بالمشروع وبالمنهجية. كلمة السر في تميز التيار الإسلامي المغربي ومسيرته هي الصدق.. نعم الصدق في القول والوطنية والحرص على الناس، وفي التواضع وممارسة الديمقراطية فيما بينهم ومع الآخرين.. الصدق في كل الأحوال ومهما كان الثمن. الصدق يثمر الوضوح والشفافية واتساق المواقف، ومن ثم الثقة في النفس وثقة الناس وتجاوبهم، وتلك شروط لا غنى عنها في قيادة التغيير. وفي خطوة رمزية جسدت معاني التواضع والوفاء والزهد في السلطة، قرر رئيس الحزب بعد توليه رئاسة الحكومة أن يظل مقيما في بيته المتواضع، وأن يظل بيته مفتوحا للناس، وأن يظل فترة طويلة بلا حراسة قبل أن يتخذ حراسة بسيطة. وقد عكست الحملة الانتخابية الأخيرة بساطة وتواضع الحزب وقادته والتصاقهم بالشعب، حيث ظلوا بعد السلطة على حرصهم الصادق على الناس خصوصا الطبقات الفقيرة، وقد كان تغير السياسيين بعد السلطة وتنكرهم لمبادئهم وللناس من العوامل التي أحبطت الشعوب وأفشلت التجارب، وهكذا بالنسبة لأغلب القيادات الحزبية ونموذج وفاة المستشار الشخصي له وخزانة أسرار العدالة والتنمية وحلقة الوصل بينه وبين حركة التجديد والإصلاح، محمد أبها خير دليل. لم يتلهف قادة العدالة والتنمية على السلطة ولم يتعلقوا بها، ولم يرتهن قرارهم لا للخارج الضامن ولا لمن يمول، فاستطاعوا أن يتمسكوا بمشروعهم وبمنهجيتهم، وأن ينفذوا ما يؤمنون به وما وعدوا به، لا ما يملى عليهم أو ما يبقيهم في السلطة. ومن بين القرارات الجريئة والكاشفة قرار عدم استعمال خط الائتمان الذي فتحه صندوق النقد الدولي للمغرب ب6.2 مليار دولار، حتى لا يتحول إلى قرض رغم أنهم كانوا مقدمين على انتخابات محلية ساخنة، في سابقة لا يقدم عليها إلا حزب صادق في حرصه على المال العام وعلى مستقبل الوطن والشعب. لا شك أن المغرب لم يصبح دولة متقدمة، وأن طريق الإصلاح مازالت طويلة وشاقة ومليئة بالتحديات، ومنها مايحدث في الريف المغربي من حراك يأخذ الطابع الثقافي اللغوي، ويمثل خطرا على وحدة المغرب، يضاف إلى ذلك تردد المغرب في التعامل مع قضية الصحراء، ولكن قطعا نحن بصدد تجربة عربية فريدة وواعدة لحزب إسلامي. لم تكن الإصلاحات التي قام بها الحزب ضخمة، ولكنها خطوات جريئة ومتلاحقة في مجالات مختلفة أشرت لما هو قادم وكشفت جديته في الإصلاح الجذري ولو بتدرج، وأكدت صدق الوطنية والحرص على الشعب وصوابية المنهجية والمسار، وعززت مصداقية الحزب وثقة الشعب فيه، وأرسلت رسائل وإشارات واضحة وقوية تلقفها الشعب، ورد التحية بأحسن منها في الانتخابات الأخيرة. وفي الأخير نؤكد بأن الحركة الإسلامية في المغرب ليست فقط حزب العدالة والتنمية، بل يوجد جماعة العدل والإحسان المحظورة، والتي تملك قدرات فكرية ونخب وفئات في المجتمع المغربي، لكنها تختلف عن حزب العدالة والتنمية في المقاربة السياسية بالرغم من وجود تقاطعات كبيرة على مستويات أخرى تحتاج إلى تمتين أواصر العلاقة بينها إذا أراد حزب العدالة والتنمية لتجربته الاستمرار، وإذا ما عملت العدل والإحسان على أن تكون الرديف الطبيعي للتجربة، على اعتبار أن سيرورة التجربة لا ينظر إليها في مدى زمني منظور بمنطق البقاء في الحكم، على اعتبار أن العملية الديمقراطية تداولية بين النخب، وفي ظل التطلعات الشعبية الكبيرة والتدافعات اليومية مع باقي النخب المغربية في اليسار واليمين، يمكن أن تدور الدورة وتنتج الديمقراطية أحزاب أخرى غير العدالة والتنمية، وفي تلك المرحلة قد يزول كل ما بناه العدالة والتنمية، وما يعتقد أنه إنجازات له، وبات من الضروري وجود بديل جاهز وحاضر وله مصداقية، ولن يكون ذلك إلا من نفس المدرسة إذا عالج السياسيون إشكالية الأنانية والمناكفة السياسية، على اعتبار أولوية المشروع على الأشخاص والأحزاب، وعلى جماعة العدل والإحسان هذه الحركة المتجذرة في المجتمع المغربي ولها حضور لافت كشفته أحداث الربيع المغربي في سنة 2011 ، عليها أن تطور من أداءاتها ومقاربتها السياسية، وعلى قسمها السياسي أن يأخذ عنوانا واضحا وسياسات تتدرج في الزمن للتقاطع مع غيرها من الأحزاب، وفي مقدمتها حزب العدالة والتنمية، فيصبح التدوال ايجابي يراكم التجربة ولا يقطع عليها حبل الاستمرار.