تُواصل المراسلة الصحفية لقناة قناة "دي دبليو" (DW) الألمانية من تونس، الإعلامية مبروكة خذير تشريحها لراهن ومستقبل الصحافة الاستقصائية، وتُعدد المعوقات التي يواجهها هذا التخصص، كما تتحدث مبروكة في الجزء الثاني من الحوار الذي جمعنا بها عن شغفها بإنتاج وإخراج الأفلام الوثائقية، وكذا حصولها مؤخرا على جائزة أفضل فيلم وثائقي عن عملها "أحفاد العبيد"، خلال الدورة الخامسة للمهرجان الدولي للسينما بمدينة تطوان المغربية. * باختصار، ومن خلال تجربتك، كيف ترين راهن ومستقبل الصحافة الاستقصائية التي ظهرت وفرضت نفسها بقوة بعد الثورة في تونس؟ – تعيش تونس اليوم فترة انتقالية دقيقة، ولكن منذ الإطاحة بنظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي تحررت الأفواه وعرف الإعلام التونسي انطلاقة جديدة واستفاد كثيرا من مناخ الحريات الذي أصبح موجودا. وسمح مناخ الحرية الذي أصبحنا ننعم به بالتطرق إلى العديد من المواضيع لا سيّما المواضيع الأكثر دقة وحساسية ممّا فتح المجال لتجربة صحافة الاستقصاء في تونس. وهنا نصر على استعمال مصطلح "التجربة"، لأننا نعتقد اعتقادا راسخا أنّ مسار صحافة الاستقصاء مازال طويلا، ومازالت التجربة حديثة في تونس لا تتعدى أن تكون تجربة سنوات قليلة سبقتها عقود من صحافة الدعاية. فهي مجال إعلامي مازال يتقدم ببطء ولا بد أن نقف على مواطن الخلل فيه حتى نتجاوزها مستقبلا ونتقدم بخطى أكثر نجاعة. وتكمن أهم المعوقات من وجهة نظري في ما يلي: أولا: إنّ عددا كبيرا من الإعلاميين في تونس مازالوا لا يفرقون بين صحافة الاستقصاء ومقالات الإثارة. فهناك مقالات تقدم لنا على أنّها تحقيقات استقصائية وهي لا تعدو أن تكون أخبارا تفتقد إلى الإثباتات والحجج والبنية التي يتطلبها تحقيق استقصائي. فللاستقصاء ضوابطه، والتحقيق الاستقصائي يجب أن يكون مكتملا منذ بناء الفرضية إلى حد إثباتها أو دحضها بمسار حجاجي يعتمد قوة الحجة والبرهان وصولا كذلك إلى مرحلة المواجهة دون التعسف على الحقيقة. كما نجد أنّ قلّة ممن يؤمنون بصحافة الاستقصاء فيوفرون لها الضروريات المادية والمهنية لإنجاحها. فجل أصحاب القرار داخل هذه المؤسسات الإعلامية التونسية مازالوا يكتفون بتقديم الخبر جافّا ويضعون جانبا الغوص فيه وتحليله. وللأسف هناك عدم إيمان بأهميّة هذا الشكل الصحفي وهناك من يعتبر أنّه توجه لا يدر المال لأصحاب المؤسسات الإعلاميّة. ولكن نشير في هذا المجال أنّ هذه الفكرة مغلوطة، فهناك مؤسسات إعلامية ارتفعت مبيعاتها وأصبحت قبلة للعديد من القرّاء عن طريق ما تنشره من ملفات استقصائية ساهمت في كسب ثقة المتلقي. نذكر هنا مثالا صحيفة "آخر خبر" التّي أصبحت على قدر كبير من الأهميّة وضمنت لنفسها الديمومة وخلقت جمهورا وفيا لمحتواها بفضل بعض التحقيقات التي كشفت العديد من الحقائق أو كذلك موقع "انكفادا" الذي استطاع أن يتموقع في المشهد الإعلامي التونسي بفضل صحافة الاستقصاء والملفات الكبيرة. كما أنّ الأمثلة بتونس عديدة، فموقع "نواة" وجريدة "الشارع المغاربي" وغيرها من الصحف الأخرى أصبحت تتطرق في جزء من محتواها لمواضيع استقصائية. ثانيا: بعض الصحافيين يرون في التوجه نحو صحافة الاستقصاء هدفا لتحقيق مآرب ذاتية وتصفية حسابات ضيقة ويتم توظيفهم من قبل أرباب المال أو حتّى من قبل رؤساء بعض المؤسسات الإعلامية لتحقيق مصالح ذاتية في حين أن صحافة الاستقصاء شكل صحافي راقي الهدف منه تحقيق المصلحة العامة وتغيير الواقع. فللأسف الصحافة الاستقصائية في تونس مازالت تستعمل اليوم لتصفية الحسابات الشخصية الضيقة وهناك محاولات لتطويع الصحافيين حتى يكونوا خدمة لأجندات سياسية ويتم إقحامهم في صراعات خفية لا تخدم صلابة قطاع الإعلام وتفقده جوهره كمهنة راقية تخضع لأخلاقيات العمل الإعلامي الشريف. ثالثا، الإشكاليّة الثالثة التّي مازالت تعيق تطور صحافة الاستقصاء في تونس هي الجانب التشريعي، فرغم أنّنا نملك قوانين تضمن حق النفاذ للمعلومة فإنّ صحافيي الاستقصاء في تونس مازالوا يعانون صعوبة الوصول إلى المعلومة سيما المعلومات الرسمية. رابعا، تحتاج الصحافة الاستقصائية في تونس إلى إعلاميين متضامنين وهياكل مهنية استقصائية قائمة الذات. ولذلك فقد استبشرنا جميعا ببعث أول ماجستير في صحافة الاستقصاء في معهد الصحافة وعلوم الأخبار وبالمولود المهني الجديد في مجال الصحافة الاستقصائية وهو جمعية تاج TAIJ الجمعية التونسية للصحافة الاستقصائية والتي تحصلت على التأشيرة القانونية في شهر ماي 2016. وهذه أول جمعية تونسية متخصصة تهدف إلى نشر ثقافة الصحافة الاستقصائية وتدعيم المهارات المهنية الصحفية في هذا المجال، عبر تنظيم دورات تدريبية للصحفيين في مجال البحث عن المعلومة والتحرّي في المصادر وتقاطع الشهادات والكتابة الاستقصائية واستخدام تقنيات الاتصال الحديثة وتطويعها في العمل الاستقصائي. ثم يجب أن نشير أيضا إلى بعث وحدة استقصائية في وكالة تونس إفريقيا للإنباء وهذه خطوة نرجو أن تنسج على منوالها عديد المؤسسات الإعلامية الأخرى. خامسا: يتحمّل الصحافيون أيضا جزءا من المسؤولية في تعثّر صحافة الاستقصاء في تونس، إذ أنّ الاستقصاء يتطلب جهدا كبيرا وهو ما يجعل بعض الإعلاميين يبتعدون عن هذا الصنف ويغوصون في تقديم الأخبار المجردة. لذلك فإنّ اعتماد أسلوب التشبيك بين الصحافيين في انجاز تحقيقات استقصائية قادر على مساعدتنا على العمل على الملفات الاستقصائية.
* بعيدا عن مجال الإعلام، تحصلتِ مؤخرا على جائزة أفضل فيلم وثائقي بالمهرجان الدولي للسينما في تطوان المغربية، حدثينا عن هذا الإنجاز بإيجاز؟ – شارك فيلمي الوثائقي "أحفاد العبيد"Slaves Descendentsفي مسابقة الأفلام الوثائقية في مهرجان "تطوان" الدولي لسينما الحب والسلام في الدورة الخامسة، شهر ماي الفارط، وقد حظي العمل بالتتويج بالجائزة الأولى للعمل المتكامل. ويتحدث فيلم "أحفاد العبيد" عن التمييز العنصري في تونس، سيما في مناطق الجنوب التونسي. فلئن كانت تونس من أول الدول العربية التي ألغت نظام الرق سنة 1846 ولكن إلى اليوم لا يزال صوت السود لا يسمع، ورغم ما تشهده الساحة الحقوقية في تونس من حراك كبير بعد الثورة لازال في تونس سود يعانون من تمييز عنصري، خاصة في مناطق الجنوب أين تقطن الأغلبية من أصحاب البشرة السوداء. الفيلم الوثائقي "أحفاد العبيد" يوثق ممارسات عنصرية ضد السود مسّت كافة جوانب حياتهم اليومية، وينقل شهادات حية وتجارب واقعية يُجمع أصحابها على أن عقلية بعض التونسيين تستبطن التمييز العنصري ضد السود.
* أيهما يستهويك أكثر الإعلام أم السينما؟ – كلاهما يستهويني ومن وجهة نظري فالأول يكمّل الثاني. فالإعلام هو الأصل بالنسبة لي، وتكويني الإعلامي يجعلني متشبثة بهذه المهنة، عاشقة لها، لذلك أضحي من أجلها، وأتحمل عناء مهنة المتاعب بصدر رحب دون كلل أو ملل. أما السينما فهي أيضا توجه جديد دخلت غماره بعد تجاربي الإعلامية المتلاحقة، وبعد أن أنجزت تقارير وأفلام وتمكنت من الضوابط التقنية من كاميرا ومونتاج وغيرها من المعدات التي ترتكز عليها صناعة الأفلام. ولكن في الحقيقة ما يستهويني أكثر في السينما هو الفيلم الوثائقي لأنه الأقرب إلى العمل الإعلامي، فنحن كصحافيين نعيش تجارب يومية كثيرة وذات أهمية عالية وتستحق التوثيق بشكل سينمائي. وخلاصة القول أني أنجذب للإعلام لأنه مهنتي الأم وإلى السينما لأنها تجربة دخلتُها بعد نضج تجربتي الإعلامية كصحافية مصورة.
* ماذا عن أحلامك وطموحاتك المستقبلية في مجالي الإعلام وكذا السينما؟ – في مجال الإعلام أطمح أن يصبح لدي يوما وسيلة إعلام مرئية تعتمد صحافة الجودة، وتكون وسيلة إعلام في مجال الاستقصاء دون غيره، وهذا مشروع يتطلب اعتمادات مالية ضخمة، فصحافة الاستقصاء تحتاج التفرغ والماديات لتنجح وتقاوم في ظل الصحافة الصفراء التي تجلب إليها القراء والمتابعين. أما في مجال الإخراج السينمائي فهدفي الأسمى هو الحصول على جائزة "أوسكار" بفيلم سينمائي طويل يكون من إخراجي وأقف به يوما على الخشبة لنيل الجائزة الكبرى. * كلمة أخيرة في ختام حوارنا هذا.. – أشكر لكم حسن اهتمامكم بالإعلاميين والسينمائيين والمثقفين عموما، وأرجو أن أكون دوما عند حسن ظن المتابعين بي. حاورها: سمير تملولت الجزء الثاني