الطيب بن إبراهيم يظهر أن اسم "شارل" أكثر من غيره من الأسماء الفرنسية تسلطا على الجزائريين وارتباطا بمآسيهم منذ عهد الاحتلال، ابتداء بشارل العاشر ملك فرنسا، الذي تم في عهده الاستعمار الفرنسي للجزائر سنة 1830، مرورا بشيخي التنصير شارل لافيجري في الشمال، وشارل دي فوكو في الصحراء، وصولا إلى الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول. نحن لا نريد هنا أن نقوم بإحصاء لأسماء "شارل" السياسية والعسكرية والثقافية الشهيرة في تاريخ فرنسا، في عهد الاحتلال، فهي لا تعد ولا تحصى، ولا يعنينا ذلك في شيء، ولكن فقط نتوقف عند ما حصل في الجزائر في فترة الاحتلال مابين 1830 إلى 1962، والتي كانت بدايتها في عهد ملك فرنسا شارل العاشر 1757 – 1836، وانتهت في عهد رئيس فرنسا شارل ديغول 1890 – 1970، والتي تركت بصماتها الملطخة بدماء ومآسي الشعب الجزائري وتاريخ العلاقات الجزائرية الفرنسية. والحقيقة هي أن أسوأ فترات تاريخ الجزائر عبر العصور ولا نقول فقط تاريخها الحديث هو ما بدا بشارل الملك واستمر إلى أن انتهى عند شارل الرئيس، وما بين شارل الأول وشارل الأخير عرفت الجزائر أبشع الجرائم الإنسانية في التاريخ، لأن حتى النازية التي جرّمها العالم، وصنِّفت جرائمها بأنها الأبشع، وفعلت فيها الدعاية فعلتها، وسلِّطت عليها الأضواء، وكانت خلال خمس أو ست سنوات مع دول تفوقها في العدد والعدة، لم تكن بحجم جرائم فرنسا ضد شعب الجزائر الأعزل خلال قرن وربع القرن، ولم تسلط عليها الأضواء، ولم يحاسبها أحد، بل تعاون معها أبناء جلدتها على الشعب الأعزل في القتل والاستيطان وتقسيم الغنيمة… حتى النازية التي أصبحت عدوة الشعوب الحرة وعدوة الديمقراطية، كان الخطأ القاتل الذي ارتكبته هو اعتداؤها على الرجل الأبيض، على الإنسان الأوروبي، على أوروبا بما فيها فرنسا وبريطانيا، لكن لو كان اعتداؤها اقتصر على الشعوب غير الأوروبية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية كما فعلت الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الفرنسية، اللتان أبادتا الملايين واستعبدتا مئات الملايين، كما أبادت أمريكا الهنود، فلا حرج، فالجنس الآري الأبيض سيد الأجناس البشرية، هو يؤمن بوصايته على غيره من الشعوب الأخرى، وصاية سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية، لقد أصاب المفكر الفرنسي المسلم "روجيه غارودي"، عندما وصف بني جنسه لما ارتكبوه من جرائم في حق غيرهم من الشعوب غير الأوروبية ب"الشرِّ الأبيض"، وكان شاهد عيان على ما فعلته دولته فرنسا الاستعمارية في الجزائر. لقد عرفت الجزائر منذ دخول جيوش شارل العاشر إليها إلى غاية طرد جيوش شارل ديغول من أراضيها أبشع أنواع القتل من حرق وغرق وشنق وخنق في حق الأفراد من قادة وزعماء، وفي حق الجماعات من قبائل وقرى ومدن، وعرفت أبشع المآسي من مجاعات وفقر وجهل وأمراض وأوبئة وتهجير وتشريد وتنكيل، إنها مبادئ الرجل الأبيض، حيث الغاية تبرر الوسيلة. إلا أن الجزائر أرض المعجزات كما قال عنها شاعر الثورة مفدي زكريا، لم تستسلم كغيرها من المستعمرات الفرنسية، بل عبر كل تاريخها لم تستسلم ولم تستكن لأي محتل مهما كانت قوته وجبروته، ومهما كلفها ذلك من ثمن، وهذا منذ عهد يوغرطة ضد الرومان، إلى أيام فرنسا والأطلسي والأمريكان، وهذه الخاصية بإقليم الجزائر حباها الله بها، ويذكرني ذلك بدراسة المرحوم، الفيلسوف الجغرافي، صاحب عبقرية المكان "جمال حمدان"، وما توصل إليه من علاقة بين الإنسان وإقليمه. لقد خطت الجزائر ملاحم بطولية ضد الاحتلال الفرنسي منذ سنة 1830 إلى غاية سنة 1962، والتي قادها قادة عالميون أبهروا العالم كله فخلد ذكراهم احتراما وإجلالا لهم، قائد بعد قائد وزعيم بعد زعيم، منذ عهد الأمير عبد القادر والمقراني وبوعمامة وشركائهم في المقاومة إلى عهد بن مهيدي وزيغود يوسف وزبانة ورفاقهم من الشهداء، ومنذ عهد فاطمة نسومر وزميلاتها إلى عهد جميلة بوحيرد وأخواتها، والقائمة تحسب بالملايين خلال عشرات السنين. قرن وثلث القرن مر على احتلال فرنسا للجزائر، وكان الوفاء والتواصل أمانة بين الأجيال، جيل بعد جيل، فلم يمل الجزائريون، ولم ينسوا تاريخهم وانتماءهم، وأثناء الثورة التحريرية راهنت فرنسا على قوتها وعلى حلفها الصليبي المدجج بأفتك وأحدث الأسلحة ضد الشعب الأعزل، وكلما ظنت فرنسا أنها أنهت الحرب واستسلم الجزائريون اكتشفت أنها مجرد جولة، وعليها أن تستعد لجولة لاحقة، والحرب سجال، إما الحرية أو الاستشهاد، ولا ثالث لهما. لقد راهن الفرنسيون على حق الأقوى، وراهن الجزائريون على الحق الأقوى، على استرداد الحق المسلوب، والحق يعلو ولا يعلى عليه، ولا قيمة لحياة العبودية دون الحرية، لتحقق الجزائر أروع البطولات النضالية، والملاحم البطولية ضد "الشرِّ الأبيض" الفرنسي.