قبل سنوات كان يعتقد الكثيرون أن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد قد ماتت، فقد قتلها الإعلام العربي عدة مرات بإطلاق إشاعات عن وفاتها، تلك الإشاعات التي كثيرا ما انتقلت بسرعة البرق من الصحف إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وما ساعد في الترويج لها وتصديقها هو عدم ظهور بوحيرد عبر وسائل الإعلام إلا نادرا، لكن إطلالتها الأخيرة أثناء تكريمها في القاهرة أسكت كل هذه الأكاذيب. تحمل أيقونة الثورة الجزائرية مكانة خاصة في قلب كل مواطن عربي، كيف لا وهي رمز الفداء والمقاومة وكبيرة مجاهدي أمتنا، فأبوا إلا أن يطلقوا عليها اسم "جميلة العرب"، وحين يُسمع اسمها نستحضر في أذهاننا أسمى معاني النضال والتضحية والشجاعة، ونستلهم روح البطولة من تلك المناضلة التي تنتمي إلى بلد المليون شهيد، هؤلاء الشهداء الذين ترك استشهادهم في وجدان بوحيرد ألما لا ينسى وغصة في قلبها، الأمر الذي يجعلها ترفض دائما كتابة مذكرات نضالها معهم خوفا من أن لا تفي حقهم.
* حفاوة وإطلالة ذات وقع ورونق خاص قد لا تحصى التكريمات التي حظيت بها المجاهدة الكبيرة في حياتها، لكن التكريم والاحتفاء الذي تلقته منذ أيام بالقاهرة كان له صدى كبيرا وانتشر خبره كالنار في الهشيم عبر كافة مواقع التواصل الاجتماعي، وظهرت المناضلة الكبيرة في كامل أناقتها وكأنها تتحدى الزمن وما يفعله من تغيير في شكل ومظهر الإنسان، تحدته كما تحدت المستعمر الغاشم، فلم يزدها تقدم السن إلا جمالا ورونقا. وخلال الحفل أعربت المناضلة الجزائرية على منصة التكريم عن سعادتها البالغة لما لمسته من محبة وترحيب كبيرين من طرف الأشقاء المصريين، فقد أعطى وزير الطيران المدني المصري توجيهاته بتقدم كافة التسهيلات اللازمة للمناضلة الجزائرية وانتهاء إجراءات سفرها، حيث استقبلت بالورود في مطار القاهرة كما أهدت لها شركة مصر للطيران قالب حلوى يحمل صورتها إلى جانب علم الجزائر، وقام طاقم الطائرة وجميع الركاب بالتقاط صور تذكارية معها.
* مصر ترد الجميل بعد تكريم الجزائر لمحمد فوزي ويأتي تكريم المناضلة الكبيرة جميلة بوحيرد تزامنا مع يوم الشهيد المصادف ل18 فيفري، وأيضا كرد الجميل للجزائر بعد أن كرمت الفنان الراحل محمد فوزي صاحب لحن النشيد الوطني قسما في شهر نوفمبر الفارط، وإطلاق اسمه على المعهد الوطني العالي للموسيقى بأمر من رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة. والجدير بالذكر أن مصر كرمت في شهر ديسمبر الماضي جميلة بوحيرد بإطلاق اسمها على أجمل حديقة بالإسكندرية. ويعتبر تكريم المناضلة الكبيرة دلالة على عمق أواصر المحبة بين الشعب الجزائري والمصري وعودة علاقتهما بإعادة ربط خيط ذاكرة التاريخ المشترك بين البلدين الشقيقين.
* ابنة جمال عبد الناصر دعت نفسها لحضور الحفل من أجل جميلة جاءت هذه الزيارة التي لم يكن يتوقعها الشعب المصري -خاصة أن جميلة بوحيرد قليلة الظهور إعلاميا- مفاجأة سارة فأسعدته مثلما أسعدتها، وهذا أقل ما يقدم لسيدة شرفت الجزائر والعرب بتاريخها النضالي ودورها المشرف في الثورة الجزائرية وما أظهرته من شجاعة وبسالة المرأة العربية، وفي هذا الصدد قالت الدكتورة منى جمال عبد الناصر ابنة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والتي كانت حاضرة أثناء التكريم إن جميلة تعد رمزا للفتاة العربية في زمنها الذي كان يحد من حرية المرأة بينما جاءت هي لتغير هذا المفهوم برفعها السلاح إلى جانب شريكها في النضال الرجل وتعيد معه حرية وطنها، وأضافت منى أن من شدة حبها للمناضلة الكبيرة دعت نفسها لحضور الحفل حتى تلتقي بها، كما أحضرت معها فيلما تسجيليا أنتج في فترة الستينات حينما زارت بوحيرد والدها جمال عبد الناصر. وعرض الفيلم خلال احتفالية استقبال الرئيس المصري الراحل لها.
* مظاهرة في حب جميلة بوحيرد على الفضاء الأزرق زيارة وتكريم روح الثورة الجزائرية جميلة بوحيرد أشعل مواقع التواصل الاجتماعي وتداول مستخدموه صورها منذ استقبالها بالورود إلى موعد التكريم، واستحسن رواد الفضاء الأزرق هذه الزيارة وهذا التكريم بتغريداتهم وبإبداء إعجابهم بالصور المتداولة، كما خصصت الصحف المصرية والعربية حيزا كبير على صفحاتها للحديث عن هذه الزيارة وهذا التكريم.
* بوحيرد على موعد آخر للتكريم في أسوان تكريم آخر سيكون بانتظار أيقونة الثورة الجزائرية خلال هذا الأسبوع بالجنوب المصري من خلال مشاركتها في فعاليات مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة كضيفة شرف، والذي سيمتد من 20 إلى 26فيفري الحالي وسيتم إطلاق اسم جميلة بوحيرد على الدورة الجديدة لكونها نموذجا مشرفا للمرأة العربية يقتدي به. وبمناسبة مرور عشر سنوات على رحيل المخرج الكبير يوسف شاهين سيتم تنظيم ندوة هناك تحت عنوان "المرأة في سينما شاهين"، لمناقشة بعض أفلامه التي تناولت نماذج للمرأة والتي كانت جميلة ملهمته، فجعلته يكرمها هو أيضا منذ زمن بفيلم سينمائي غيّر تاريخ السينما المصرية والعربية بعنوان "جميلة"، شاهين أظهر لنا في الفيلم ذلك الجسد النحيل الذي كان رمزا للإصرار على النصر فانحنى لها الألم والعذاب ذليلا أمام صمودها وشجاعتها وهي تواجه سوط الجلاد الفرنسي وتقاوم أبشع أنواع التعذيب، صمودٌ جعلهم يفشلون في انتزاع أي اعتراف منها. كما أبدعت الفنانة الكبيرة ماجدة الصباحي في إتقان دور جميلة في أحد المشاهد وهي تردد الجملة الشهيرة للمناضلة أثناء صدور حكم الإعدام عليها قائلة: "أعرف أنكم سوف تحكمون عليّ بالإعدام لكن لا تنسوا أنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم ولكنكم لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة".
* جميلة ملهمة الشعراء ولم تكن جميلة ملهمة شاهين فقط بل ألهبت قريحة الشعراء العرب الذين تنافسوا في نظم القصائد التي أشادت بها وبنضالها، فاختاروا أن تكون بطلة قصائدهم وأشعارهم، أمثال صلاح عبد الصبور بدر شاكر السياب الجواهري وغيرهم، ولعل من أشهر قصائد نزار قباني كانت قصيدة جميلة يصف فيها صمود فتاة قضت 5سنوات من ربيع عمرها داخل زنزانة المستعمر فلم تعرف شفتاها الزينة ولم تدخل غرفتها الأحلام فقد سلبها المستعمر الغاشم كل أحلامها فصار السلاح زينتها وحرية الوطن هدفها.
* مشكلة العرب في نطق اسم بوحيرد كثيرا ما لاحظنا الخطأ الذي يقع فيه الإخوة المشارقة حينما يلفظون اسم جميلة بوحيرد فينطقونه "بوحريد" والأغرب أن من يقع في هذا الخطأ ليس عامة الناس فقط بل أيضا فنانون وإعلاميون رغم أن المناضلة الكبيرة شخصية مؤثرة ومعروفة عالميا، هذا الخطأ الذي يزعج كل جزائري بصفة أن بوحيرد إحدى رموز ثورتنا قد يعود إلى صعوبة نطق الاسم عند هؤلاء، فيجعلونه سهلا وخفيفا على ألسنتهم بربط الياء مع الحرف الأخير أي الدال، لكن ذلك لا يدعو للشك من الحب الذي يكنه الشعب العربي لجميلة بوحيرد واعتزازهم بها.
* نبذة عن أيقونة الثورة الجزائرية ولدت جميلة بوحيرد في حي القصبة بالجزائر العاصمة سنة 1935 من أب جزائري مثقف وأم تونسية وكانت البنت الوحيدة بين أفراد أسرتها فقد أنجبت والدتها 7 شبان، كان لوالدتها التأثير الأكبر في حبها للوطن فقد كانت أول من زرع فيها هذا الحب وذكرتها بأنها جزائرية لا فرنسية. رغم سنها الصغير آنذاك، واصلت جميلة تعليمها المدرسي ومن ثم التحقت بمعهد للخياطة والتفصيل فقد كانت تهوى تصميم الأزياء. مارست الرقص الكلاسيكي وكانت ماهرة في ركوب الخيل. عندما اندلعت الثورة الجزائرية عام 1954، انضمت إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية للنضال ضد الاحتلال الفرنسي وهي في العشرين من عمرها، ثم التحقت بصفوف الفدائيين وكانت أول المتطوعات لزرع القنابل في طريق الاستعمار الفرنسي، ونظراً لبطولاتها أصبحت المطاردة رقم 11 حتى ألقي القبض عليها عام 1957 عندما سقطت على الأرض تنزف دماً بعد إصابتها برصاصة في الكتف، نفذ عليها الحكم بالإعدام يوم 7 مارس سنة 1958 لكن العالم كله استنكر وثار ضد هذا الحكم، وأصبحت قضيتها النضالية قضية رأي عام امتدت إلى كل أنحاء العالم، فأجل قرار الحكم عليها وزج بها في زنزانة بالجزائر ثم تم ترحيلها إلى فرنسا أين قضت هناك 3 سنوات بين أسوار أحد سجون باريس، إلى أن استرجعت الجزائر استقلالها واسترجعت بوحيرد حريتها سنة 1962، وبعد 4 سنوات تزوجت من محاميها الفرنسي جاك فرجاس الذي أسلم واتخذ منصور اسما له. نجاة دودان