حين قال وزير الداخلية الألماني "هورست زيهوفر" إن الاسلام ليس جزء من الألمانية، متبنيا الطابع المسيحي ل"دويتشلاند"، طغت العديد من الأسئلة، وقتها، كان أبرزها "كيف لوزير دولة ديمقراطية علمانية يتبنى البعد الديني المسيحي في خيارات الهوياتية للفيدرالية". في الاتجاه نفسه، سار الرئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق "جيسكار ديستان"، حين حاول إدراج المسيحية كديانة رسمية ضمن ميثاق الإتحاد الأوروبي، غير أنه لم يوفق في مسعاه. ويعكس تصور "ديستان" موقف المدرسة السياسية اليمينية، المنتمي إليها، فهذه المدرسة لطالما اشتغلت على تأصيل الهوية الأوروبية الوطنية والقومية في مواجهة صعود الهويات المتعددة التي تهدد تماسك المجتمع الأوربي المسيحي. وشهدت فترة ترؤسه للجمهورية صعود الجيل الثاني من المهاجرين المغاربة، لاسيما ما يعرف بحركة "بور" (مصطلح يطلق على المهاجرين المولودين في فرنسا من عائلات شمال افريقيا) . وشكل هذا الصعود إعادة طرح الوجود الإسلامي في فرنسا كعنصر انتماء ثقافي و فكري واجتماعي وبات مطلب الهوية يفرض نفسه على أرض الواقع، بعدما كانت هذه الفئة من المهاجرين تنادي بالمطالب الاجتماعية والانسانية. على ضوء ما سبق، يبدو لي أن صعود تيار التطرف الديني في أوروبا يوحي أن إشكاليات عودة الدين كمعطى هوياتي و ليس ديني هو جزء من محاولة فك الارتباط الثقافي بين الوطن و الوطن الأم أو محاولة التخلص من السيطرة الثقافية الغربية المشكلة من الثنائية (الانتماء المسيحي الكاثوليكي أو اللائكي اللاديني). وانعكست هذه القطيعة على ظاهرة التدين في وسط المهاجرين، عبر التحاق جزء من أبناءهم والمتحولين دينيا للاسلام بالجماعات الجهادية، بعد تحقيق مطلب المواطنة والتجنيس. كما أصبح الفرد المسلم في الغرب يطالب بالبحث عن أنموذج الرجل المؤمن في الفضاء الأوروبي، من خلال البحث عن دار الإسلام كفكرة متخيلة تستقطب عقول هؤلاء الشباب، ليستقر بهم المطاف عند حدود "طوباوية" خلافة الدولة، التي صارت الملجأ لتجسيد الحلم المفقود في الفضاء الغربي. هذه القفزة المطلبية التي عرفتها طبقة المهاجرين بعد انشغالها بالمسائل الاندماجية والترقية الاجتماعية والعدالة، دفعتهم إلى البحث عن الفضاء "الوجودي-المتخيل"، عبر التدين بشكله الاستفزازي والعنيف، الذي عادة ما يصطدم مع الآخر المغاير والأسس البنيوية الأوربية. في تلك الأثناء، كان صعود اليمين المتطرف سببا ونتيجة تعدد الهويات غير المتوافقة مع تاريخيانية أوروبا، فعودة هذا التيار واستقواءه، يعكس جملة من التصورات تجاه المكون الآخر كعنصر "المؤمن-المسلم"، الذي يحاول فرض وجوده و ذاته. وبالتالي، بات يشكل المكون الديني المسيحي فاصلا بينهما لتحديد الفروق، بدل التجنيس، مما أنتج عودة المجتمع الكاثوليكي و انتشاره في كل الأوساط ،حتى اليسارية المتطرفة منها، على حساب تراجع التيارات العلمانية و الشيوعية و رجوع الخطاب الكنائسي واقتحامه المجال السياسي و الثقافي. وما نعيشه اليوم من اشكالية عودة الدين كقيمة رد فعلية تجاه الآخر، تصنعها التخوفات من رفض التعايش أو التنصل من الهيمنة أو البحث عن الأنا في الفضاء صراعاتي، مما يبرر العنف كمحاولة للحماية من السيطرة و يشرعن للقوة في محاربة الارهاب و نشر العولمة و نشر الديمقراطية و حقوق الانسان. قياسا على ذلك، فُسر تولي " دونالد ترامب" سدة الحكم في أمريكا بعودة التيار المحافظون الجدد، ممن عارضوا التوجه الاحتوائي و التصالحي ل"بارك أومابا" تجاه حركات الاسلام السياسي و ايران و قضايا الشرق الأوسط. ومعروف عن المحافظين خطابهم المتشدد و مواقفهم العدائية تجاه إيران و حركة الاخوان المسلمين ودعمهم التواجد الاسرائيلي الجغرافي على حساب الفلسطينيين واستخدامهم القوة العسكرية والمصادمة مع الشرق المتوحش. وعند إسقاط ذلك على العالم العربي، يتبين جليا عودة الديني في استخدامه في الحقل الجيوسياسي و الجيوإقليمي، ذلك أن عودة إيران إلى الساحة العربية والتوسع في المربع السوري و اليمني واللبناني والبحريني تحت ذرائع مختلفة ومتباينة. يقابل ذلك، حملة سعودية وتركية في توظيف السنة في صراعاتها الجيوسياسية و التموقعات الإقليمية، حتى صارت دول، بينها الجزائر ومصر، تستخدمان في أدبياتهما ديبلوماسية على أنهما تنتميان إلى المحور السني، بعدما كانتا من دول المحور القومي التحرري . وتبرز أشكال أخرى في عودة الديني في النزاعات والصراعات الشرق الأوسطية، منها التدخل الروسي في سوريا الذي يتم عبر الدعم السياسي و الديني للكنسية الأرثوذكسية الروسية لصالح الاقلية الارثوذكسية في منطقة الشام. ومازال المخيال الديني، عند المسيحيين ممن يعتقدون بعودة المسيح و لدى المسلمين ممن ينتظرون المهدي، وكلاهما يجتمعان حول فكرة خلاص المجتمعات من الرذيلة و الظلم و عودة الفضيلة و العدل و السيطرة الدينية . والملاحظ أن العولمة أصبحت تشكل عنفا على ثقافة الفرد و خصوصية الوطن القطري وأضحى مفهوم التعولم مرادف للاستعمار الجديد، الذي يبرر استخدام العنف الدولي وشرعنة القوة العسكرية في تفكيك الأوطان والسيطرة عليها. و في ظل عجز الدولة القطرية الدفاع عن نفسها، تشكلت جماعات تحت تغطيات دينية تحاول الدفاع عن نفسها و مقاومة أشكال الخضوع للهيمنة العالمية. وفي تقديري، أنه يتعين على الغرب والمجتمع الإسلامي إعادة صياغة مفهوم التسامح الذي يهدف الى حل النزاعات المنتجة والمصنعة من قبل المجتمعات داخل الكيان الواحد أو المتعدد من أجل خلق نموذج للعيش المشترك. وتهدف هذه العملية، وفق تصوري، إلى تحقيق الحد الادنى من التعايش عبر الاعتراف بالآخر من أجل حقه في أداء طقوسه الدينية وتوفير الأمن والتنمية وحياة طبيعية أفضل . بقلم: عمر لشموت