كلما ذكرنا الشهيد أو المجاهد إلا وترائى أمامنا شريط 132 سنة من ذكريات المعاناة والتعسف والقهر ومحاولات الإبادة وطمس هوية الشعب الجزائري من طرف الاستدمار الفرنسي وحلفائه ومن سار في ركبهم، غير أن هذا الترهيب كله لم يثن شعبنا ولم يقلل من عزيمته وإصراره على المقاومة والثورات المتتالية، ولست هنا بصدد التأريخ لهذا المسار الطويل من النضال حتى انبلاج فجر الحرية والاستقلال، لأن هذا ليس مجالي وإنما أود التذكير فقط ببعض المحطات التي تشير إلى التضحيات الجسيمة التي قدمها شعبنا في مواجهة كل المخططات الجهنمية للاستدمار وذلك بعزيمة وإصرار غير مسبوقين، أتعرفون لماذا ؟ لأن ثقافة وروح المقاومة متأصلة لدى الشعب الجزائري على مر العصور فقد كانت الجزائر سيدة البحر الأبيض المتوسط وحامية هذه الثغور لمدة 3 قرون و نصف. * وهذه الثقافة جعلت الشعب الجزائري مجبول على التمسك بالمقاومة وعدم التفريط في مبدأ الحرية بصفتها ثابت مقدس وبالتالي عدم الرضوخ للعدو والعدوان مهما كان ومهما كانت التضحيات ومن هنا تأتي مسألة التمسك بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها مهما كانت الظروف وكيف ما كان الثمن. * في هذا السياق تميز التاريخ الجزائري الحديث بالمقاومة الجهادية التي دامت 90 سنة من 1830-1920 أي منذ أن وطئت أقدام المستدمر الفرنسي النجسة أرض الجزائر الطاهرة عبر منطقة سيدي فرج بالجزائر العاصمة إلى غاية الاستيلاء على مدينة جانت في الجنوب الجزائري، مدينة البطولات والتضحيات على غرار تضحيات باقي أبناء الجنوب الكبير. * وقد استبسل الشعب الجزائري في مقاومته لكل أنواع الإبادة البشرية مثل محرقة أولاد رياح 1844 (المتيجة) وإبادة الزعاطشة عام 1848 وغيرها، حيث تتكلم المصادر الفرنسية نفسها عن قتل أكثر من نصف مليون جزائري في الفترة مابين 1866-1868. * في سياق متصل بمعاناة الشعب الجزائري من الاستدمار الفرنسي ثم تجنيد أكثر من ربع 4/1 مليون جزائري في سنوات الحرب العالمية الأولى قتل منهم 70 ألف أو يزيد. كذلك عرفت مرحلة الحركة الوطنية 1920-1954 تصفيات بالجملة من أبناء الشعب والحركة الوطنية عبر أنحاء البلاد وكذلك داخل فرنسا نفسها ووصلت الإبادة إلى قمتها في مجازر ماي 1945 التي ذهب ضحيتها 45 ألف شهيد، وكان القصد منها القضاء على روح المقاومة وإطفاء جذوتها إلى الأبد، لكن العكس هو الذي حصل وكانت هذه المجازر سببا في اقتناع الجميع بأن ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة. وفي خضم مشاكل الحركة الوطنية تشكلت اللجنة الثورية للوحدة والعمل ثم جبهة التحرير الوطني لتقود ثورة شعبية مسلحة شاملة و كما هو معروف فقد تقرر موعد اندلاع الثورة وإطلاق تسمية جبهة التحرير الوطني في اجتماع الستة الأحرار (محمد بوضياف- رابح بيطاط- مراد ديدوش- العربي بن مهيدي- مصطفى بن بولعيد وكريم بلقاسم) وذلك في اجتماع يوم 23 أكتوبر 1954 في بيت المناضل مراد بوكشور ببلدية الرايس حميدو بالجزائر العاصمة. * أثناء هذه الثورة المباركة قامت القوات الاستدمارية بكل أنواع القهر والإبادة الجماعية والمجازر في كل أنحاء البلاد بما في ذلك جرائم العمليات الكبرى في مخطط شال. * وضع أبناء الشعب الجزائري في محتشدات ومعسكرات الموت واستخدام القنابل الغازية والنابالم وكل صنوف التعذيب وإقامة خطي موريس وشال لحصار الشعب الجزائري وجعله كله في سجن أوسع والسعي لمنع تموين الثورة في محاولة خائبة وبائسة لعزلها عن حاضنتها وهي الشعب لكن إرادة الشعوب من إرادة الله وفقا لقول الشاعر أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر * وليس آخرها التفجيرات النووية في الجنوب الكبير و هي كلها زراعة للموت المستمر، حيث ما تزال آثار الإشعاعات النووية تتسبب في العديد من الأمراض القاتلة و في مقدمتها الأمراض السرطانية وغيرها . * دامت عملية تطهير الجزائر من الألغام 52 سنة كاملة وذلك في عمل جبار يستحق كل التقدير قام به الجيش الوطني الشعبي حتى بداية العام (2017) وكان ضحية هذه الألغام حوالي 4000 شخص من أبناء الجزائر. * تشير مصادر فرنسية أن قوات الاحتلال قد قضت على أكثر من 10 مليون جزائري خلال 132 عام. وأعتقد أن هذا الرقم لا يمثل حتى 4/1 الضحايا و الشهداء؟ لماذا؟ * عندما احتلت فرنساالجزائر كان عدد سكانها 6 مليون نسمة وعند إخراجها أو طردها بعد 132 عام، كان عدد سكان الجزائر حوالي 10 مليون نسمة. و لكم أن تستنتجوا من ذلك ما تشاؤون. مقارنة بفترة الخمسين سنة من الاستقلال حيث بلغ عدد السكان 40 مليون نسمة. * ورغم كل أنواع الإبادة التي قام بها المستدمر للاحتفاظ بالجزائر فقد كان صمود الشعب الجزائري بمقاوماته وثوراته المتواصلة أسطوريا التي سجلت أروع ملاحم التضحية والفداء لدحر الاستدمار، وقد كان من أسباب القوة والنجاح التي أخذت بها ثورة أول نوفمبر المجيدة زيادة على الكفاح المسلح في الداخل من خلال ثورة شعبية بكل المعاني إعطاء الأهمية اللازمة للساحة الدولية، وفقا لبيان أول نوفمبر الخالد الذي حدد الهدف بوضوح وهو الاستقلال التام، والوسيلة الكفاح المسلح وكل وسيلة أخرى مكملة ومتاحة حيث تم التوجه إلى الساحة الدولية بالتوازي مع اندلاع الثورة وقاد المعركة الدبلوماسية التي لم تقل في شراستها عن الكفاح المسلح مناضلون أقول عنهم دائما أنهم فتية آمنوا بربهم وبعدالة قضية شعبهم وألغوا كلمة "مستحيل" من قاموسهم ووصلوا إلى أصقاع المعمورة لإسماع صوت ثورة شعبهم، وتفنيد حجة المستدمر الفرنسي بأن الجزائر مقاطعة فرنسية. وكان مؤتمر باندونع أفريل 1955 هدية من رب العالمين لم تفوتها قيادة الثورة، وأسمع وفدها صوت الجزائر المكافحة وإفهام العالم بأن الجزائر ليست مقاطعة فرنسية كما يزعم الاستدمار الفرنسي، وفي الوقت ذاته السعي لكسب الدعم للثورة بكل أشكاله السياسي والمادي وغيره، وجاء أول دعم للشعب الجزائري لتقرير مصيره من هذا المؤتمر الذي اعتبره الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في إحدى تصريحاته بأنه يعتبر بمثابة أول نوفمبر جديد على المستوى الدولي وهو بحق كذلك حيث كان البوابة الأولى لتدويل القضية الجزائرية بما قدمه ووفره من فضاء دولي مهم للتعريف بقضية الجزائر وعدالتها والسعي لتفنيد وتكذيب ادعاء فرنسا بأن الجزائر مقاطعة فرنسية. ونتيجة لهذا المؤتمر طرحت قضية الجزائر في شهر جويليه 1955 على الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها ال 10 من طرف مجموعة دول أفرو آسياوية، ورغم عدم قبول تسجيلها رسميا بعد انسحاب الوفد الفرنسي بذريعة أن قضية الجزائر هي مسألة داخلية فرنسية فإنها حظيت باهتمام الوفود الدولية المشاركة وشكل هذا الحراك انتصارا للقضية ولدبلوماسية الثورة وكانت خطوة مهمة بنى عليها أبطال دبلوماسية الثورة مدعومين بالأشقاء والأصدقاء لخوض معارك كثيرة وشاقة إلى أن كللت الجهود المباركة بتسجيل القضية رسميا على جدول الجمعية العامة. وهنا يمكن الإشارة إلى أن القضية كانت تحت الملاحظة والنضج في دورات الجمعية العامة اللاحقة ولا سيما منذ الدورتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة لعامي 1957، 1958 حيث بدأ يتبلور الاتجاه نحو تأكيد مسؤولية الأممالمتحدة في قضية الجزائر لاسيما بعد تسجيلها رسميا، وخلال الدورتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة لعامي 1960 ، 1961 تم تأكيد مسؤولية الجمعية العامة للأمم المتحدة في إيجاد حل للقضية يمكن الشعب الجزائري من تقرير مصيره وذلك أمام إصرار الرجال وعزيمة شعب بأكمله وبعد كل المحاولات اليائسة والحيل البائسة للوقوف أمام عجلة التاريخ، اضطر الجنرال ديغول للقول: "إننا بعد أن كنا نسلّط القمع على الجزائريين أصبح القمع يسلّط علينا حيث بدأنا نفقد حتى حلفائنا على المستوى الدولي وذلك بفعل حكمة دبلوماسية الجزائريين"، وبالفعل وفي ظل التناغم والتكامل بين الثورة في الداخل والعمل الدبلوماسي في الخارج استطاعت دبلوماسية الثورة التعريف بالقضية الجزائرية وكسب الدعم الدولي بكل أنواعه، وإبلاغ العالم بحقيقة الوضع في الجزائر في جهد معاكس لوسائل إعلام العدو ودبلوماسيته المعاديتين وتوظف ما ينظم من احتجاجات شعبية ضد المستدمر، وفي هذا السياق وكما تم توظيف هجومات الشمال القسنطيني، أوت 1955 وإضرابات 1958 على المستوى الخارجي خدمة للهدف المركزي للثورة كان الأمر ذاته بالنسبة لمظاهرات 11 ديسمبر 1960 بما حملته هذه المظاهرات من شعارات أكدت اصرار الشعب الجزائري على حقه في تقرير المصير والاستقلال ورفض سياسة ديغول المغلفة بالشعار المخادع الجزائر جزائرية والرد على مقولة المعمرين بأن الجزائر فرنسية وتم إيصال أصداء هذه المظاهرات الشعبية العارمة إلى أروقة الأممالمتحدة المنعقدة جمعيتها العمومية ال 15 وهو ما كان له تأثيره الإيجابي في اعتماد اللجنة السياسية قرارها رقم 1514 (14 ديسمبر 1960) المتعلق بحق الشعوب في تقرير المصير والاستقلال وفي 20 من الشهر ذاته أصدرت الجمعية العامة لائحة تؤكد حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره و بهذا الإصرار والوضوح وبعد فشل كل محاولات المماطلة والمراوغة من طرف الجنرال ديغول بما في ذلك شعار "سلم الشجعان" الذي يهدف في الحقيقة إلى إجهاض الثورة . تم التسليم بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره عبر ممثله الشرعي الوحيد جبهة التحرير الوطني، وخاض المناضلون الدبلوماسيون معارك ومفاوضات ضارية طويلة وشاقة كان آخرها مفاوضات إيفيان 6 ) 18 مارس 1962 ) التي أفضت إلى استقلال الجزائر التام وغير المنقوص، كما نص على ذلك بيان أول نوفمبر الخالد وطرد المستدمر غير المأسوف عليه إلى غير رجعة. ومما سبق فإن الجزائر لم تسترجع سيادتها واستقلالها بسهولة بل كان ذلك مقابل ثمن غال ونفيس من التضحيات الجسام وملايين الشهداء الكرام عبر 132 سنة من المقاومة والجهاد والكفاح دون هوادة، هؤلاء الشهداء الذين سموا شهداء، لأن الله سبحانه وتعالى وملائكته شهود لهم في الجنة بإذن الله الذي قال في حقهم: بسم الله الرحمن الرحيم "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلو تبديلا"- صدق الله العظيم إننا نحتفي بيوم الشهيد، ونحن نستذكر الشهداء بكل الإجلال والاحترام وهذا حقهم علينا وواجبنا نحوهم وهو أضعف الإيمان، وأحسب أن أحسن تكريم وأعظم هدية نقدمها لشهداء الجزائر عبر التاريخ من المقاومات الشعبية إلى ثورة أول نوفمبر الخالدة هو أن نصون الأمانة ونحافظ على الجزائر في ظل تحولات دولية غير مسبوقة وأزمات متفجرة تحيط ببلادنا، وذلك بتحصين الجبهة الداخلية والحفاظ على السيادة والوحدة الوطنية ببعديها الجغرافي والشعبي وهذا يفرض على الجميع التجند واليقظة وإسناد الجيش الوطني الشعبي وأفراده يؤدون مهام جليلة للحفاظ على الوطن وهي امتداد للمهام التي قام بها الأسلاف الأمجاد من أجل تحرير الجزائر من ربقة الاستدمار، أقول هذا الكلام، لماذا؟ لأن أمن البلاد هي مسؤولية الجميع وأن الشعب برمته ملزم باليقظة والتجند لدرء المخاطر التي تستهدف بلادنا واستقرارها، هذا الاستقرار الذي يحسدنا عليه الكثير وخاصة بعض القوى الدولية التي لا تريد الخير لبلادنا، ومن هذا المنطلق فإنني أرى انه على الأحزاب السياسة ومختلف المنظمات والمجتمع المدني والمثقفين ورجال الفكر والإعلام وغيرهم التجند والتجنيد بوعي للمخاطر كل من موقعه وليكون كل مواطن عينا ساهرة على أمن البلاد في تلاحم وطن، وهذا ما أكد عليه رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة إلى أبناء الجزائر قاطبة في أكثر من مناسبة. وكل ما سبقت الإشارة إليه لا يكون بتقديري إلا بالتشمير على سواعد الجد وبذل الجهود اللازمة لكسب رهان معركة البناء والتشييد ضمن إستراتيجية للتنمية الشاملة بتطوير نموذج اقتصادي متنوع مبنى على اقتصاد العلم والمعرفة والتكنولوجيات الحديثة وهو رهان يجب كسبه للخروج من التبعية للمحروقات. وهنا فقط نكون قد أوفينا ولو بجزء بسيط من حق الشهداء الكرام الذين قدموا أرواحهم الغالية فداء للوطن، وإذا كان الشهداء قد قدموا أرواحهم رخيصة لتعيش الجزائر عزيزة مهابة الجانب أفلا نستطيع نحن تقديم ضريبة العرق والعمل للمحافظة على بلادنا شامخة بين الأمم، إننا نستطيع ذلك لأن بذرة الخير والانتماء للشهداء كامنة فينا إلى يوم الدين. وفي هذا الخصوص لايمكن أن أختتم مداخلتي هذه دون توجيه تحية إكبار وإجلال لكل المجاهدات والمجاهدين الذين نتمنى لهم طول العمر والعيش في عزة وكرامة وإلى الأكرم منا جميعا شهداء الجزائر عبر عشرات السنين شهداء المقاومات الشعبية وشهداء ثورة نوفمبر المجيدة، وشهداء الواجب الوطني لدحر كل من تسول له نفسه المساس بالجزائر الطاهرة، أرض الأبطال والشهداء. *أتقدم بخالص الشكر والعرفان للأستاذ مخطاري بركه رئيس جمعية مشعل الكشاف والأستاذ منظم الملتقى التاريخي حول شهداء آزجر ودورهم في مقاومة التوارق ضد الاستعمار الفرنسي وذلك يوم 18 فيفري 2018 بمناسبة اليوم الوطني للشهيد وإلى الأستاذ الطاهر متالي الأمين الولائي للمنظمة الوطنية لتواصل الأجيال والشكر ذاته موصول إلى السيد بن قامو محمد السعيد الوالي المنتدب الراعي لهذه المناسبة الطيبة وكل القائمين على هذا الملتقى على دعوتهم الكريمة التي سمحت بتواجدي للمرة الثانية في مدينة جانت المضيافة . * محاضرة ألقيت بمدينة جانت ولاية اليزي يوم 18 / 02 / 2018