إن الحديث عن مضامين سجلات ذاكرة دبلوماسية بلادنا بانتصاراتها وأمجادها سواء في عهد ثورة نوفمبر الخالدة أو فيما يتصل بمسيرة دبلوماسية جزائر الاستقلال التي انخرطت في المنظومة الدولية بعيد استرجاع السيادة والاستقلال رسميا بتاريخ 5 جويليه 1962 بوهج الثورة المنتصرة يحتاج الى محاضرات عديدة ومتعددة، خاصة ونحن في إطار الملتقى التاسع حول حياة الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله قالمه 27، 28 ديسمبر 2017 والدور المحوري لهذا الرجل القائد في ثورة التحرير المجيدة وبناء جزائر الاستقلال الجديدة من منطلق مشروع واضح لدولة وطنية لا تزول بزوال الرجال. لكن مقتضيات الملتقى لا تسمح بالاستفاضة في تفاصيل كثيرة، وقد ارتأيت أنه من المفيد الاقتصار فقط على بعض من المحطات المهمة التي تعطي اضاءات عن جبهة النضال على المستوى الخارجي، والتي تلخص فلسفة ورؤية وأهداف دبلوماسية بلادنا المستندة الى مبادئ سياستها الخارجية الثابتة. دبلوماسية جزائر الثورة من يتصفح بعض صفحات سجل دبلوماسية الجزائر الثائرة لا يمكن إلا أن يشعر بالاعتزاز و الفخر وحتى الاندهاش بما قام به مجموعة من المناضلين على المستوى الخارجي إقليميا ودوليا، فهؤلاء قلت في حقهم ولا أزال انهم فتية آمنوا بربهم و عدالة قضيتهم والغوا من قاموسهم كلمة مستحيل و بالتالي نحتوا في الصخور بأظافرهم وحققوا المعجزات لأنهم كانوا أصحاب قضية لا ينتظرون لا مزايا إدارية أو انتفاعات مالية أو غيرها، ولم تكن المهمة صعبة فقط بل تكاد تكون مستحيلة عندما يقرأ المرء بهدوء مسيرة هؤلاء المناضلين الذين آمنوا بعدالة قضية شعبهم الذي كان يخوض في الداخل ثورة عارمة بإمكانات بسيطة لا تكاد تذكر أمام جبروت المستدمر المدعوم بأسلحة الحلف الأطلسي وغيرها، و قد أعطت قيادة الثورة منذ البداية أهمية كبيرة للبعد الدولي على كل المستويات، لتحقيق عدة أهداف خارجية تصب في خدمة الهدف المركزي للثورة وهو استعادة السيادة الوطنية وتحقيق الاستقلال الوطني. وبعد أقل من ستة أشهر من اندلاع الثورة المباركة عقد مؤتمر باندونغ الافرو آسياوي في الفترة ما بين 18 24 أفريل 1955 الذي جاء بمثابة هدية ربانية وسانحة مهمة اغتنمتها قيادة الثورة ممثلة خاصة في كل من الراحلين حسين آيت أحمد و محمد يزيد كما ينبغي وأحسنت توظيفها، للتعريف بقضية الجزائر وعدالتها، والسعي الدائم لدحض فكرة الاستدمار بأن الجزائر مقاطعة فرنسية وهو الزعم الذي حاولت فرنسا ترسيخه في أذهان الرأي العام العالمي طيلة 125 سنة التي سبقت اندلاع الثورة المسلحة عام 1954. وقد اكتسى مؤتمر باندونغ هذا أهمية قصوى للجزائر حيث اعتبره الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بأنه كان بمثابة أول نوفمبر جديد على المستوى الدولي وهو بحق كذلك، حيث أصدر بيانا أكد فيه حق الشعب الجزائري في تقرير المصير والاستقلال والأمر ذاته بالنسبة للمغرب وتونس، و كان بالتالي البوابة الأولى لتدويل القضية الجزائرية وبذل الجهود الجبارة لكسب التأييد لها والتعاطف معها ونتيجة لبيان هذا المؤتمر، وبجهود خارقة للعادة قام بها دبلوماسيو الثورة طرحت قضية الجزائر في شهر جويليه 1955 على الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها ال10 من طرف مجموعة دول أفر- آسياوية، ولكن لم يقبل تسجيلها رسميا، بعد انسحاب الوفد الفرنسي بحجة ان قضية الجزائر هي مسألة داخلية لفرنسا، ورغم عدم تسجيل القضية رسميا إلا أنها حظيت باهتمام كبير من طرف الوفود الدولية المشاركة، وشكل هذا الزخم انتصارا للقضية ولدبلوماسية الثورة وكانت خطوة مهمة بنى عليها أبطال دبلوماسية الثورة مدعومين بالأشقاء و الأصدقاء لخوض معارك كثيرة، إلى أن كللت جهودهم المباركة بتسجيل القضية رسميا على جدول الجمعية العامة ويمكن القول أن القضية كانت تحت الملاحظة والنضج في دورات الجمعية العامة اللاحقة ولا سيما منذ الدورتين الثالثة عشر والرابعة عشرة لعامي 1957، 1958 حيث بدأ يتبلور الاتجاه نحو تأكيد مسؤولية الاممالمتحدة في قضية الجزائر لا سيما بعد تسجيلها رسميا وخلال الدورتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة لعامي 1960، 1961 تم تأكيد مسؤولية الجمعية العامة للأمم المتحدة في ايجاد حل للقضية يمكن الشعب الجزائري من تقرير مصيره. مفاوضات ايفيان الثانية من يتصفح سجل ذاكرة مفاوضات إيفيان الثانية واللقاءات السابقة التي كانت في معظمها محاولات من طرف الجانب الفرنسي لجس النبض واختبار مدى صلابة وقدرة مفاوضي الثورة ( ايفيان الاولى 20 جوان – 13 جويليه 1961، لوغران 20 – 28 جويليه 1961، لي روس 11 – 19 فيفري 1962 ) وبالذات الأرشيف الفرنسي ولاسيما كتاب مفاوضات ايفيان من خلال أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية يتأكد يت ي ي يتأكد من عظمة الرجال المفاوضين الذين تميزوا بسرعة البديهة والفطنة في مقارعة الخصم بالحجة والدليل بادراك ووعي عال، وهم الذين لم يتخرجوا من جامعات أو مدارس عليا في الدبلوماسية والعلاقات الدولية يمكن أن نذكر من بينهم عل سبيل المثال لا الحصر كريم بلقاسم، سعد دحلب و محمد الصديق بن يحي وغيرهم وكيف كان أداؤهم رائعا في كل جولات المفاوضات كلها وخاصة في مفاوضات ايفيان الثانية الحاسمة والأخيرة في الفترة ما بين 6 – 18 مارس 1962 حيث تمكنوا من اجهاض كل المحاولات الملتوية لكبير المفاوضين الفرنسيين لوي جوكس ومن معه، وفي المقدمة محاولات فصل الصحراء عن باقي ارض الوطن، وقد كان زادهم الإيمان بعدالة قضيتهم وبحقوق بلادهم التاريخية ووضوح الهدف والرؤية وفقا لبيان أول نوفمبر 1954، وما زاد في قوة الدفع لديهم أنهم كانوا يستندون في الداخل الى ثورة شعبية شاملة أصابت المستدمر في مقتل على جبهات متعددة ووصل صداها الى العالم، خاصة منذ هجومات الشمال القسنطيني 20 أوت 1955 ومؤتمر الصومام 20 أوت 56، وتعزيز موقف الثورة بالاعلان عن تشكيل الحكومة المؤقتة يوم 19 سبتمبر 1958 وأصداء مظاهرات 11 ديسمبر 1960 التي أكدت للجنرال ديغول وللعالم أجمع اصرار الشعب على حقه في استرجاع السيادة والاستقلال بقيادة جبهة التحرير الوطني ممثله الوحيد،كما وصلت أصداؤها الى أروقة الاممالمتحدة وبالذات الى لجنة تصفية الاستعمار التي أصدرت قرارها 1514 المتصل بحق الشعوب في تقرير المصير وجددت التأكيد على حق الشعب الجزائري في ممارسة حقه في تقرير المصير، وأمام التكامل الرائع بين الكفاح المسلح و نتائجه الباهرة التي وظفت دبلومسيا بكل حكمة في معركة اقناع الرأي العام الدولي وإدارة المفاوضات سلم المستدمر مرغما في اتفاقيات ايفيان الثانية المشار اليها أعلاه بحق الشعب الجزائري في تقرير المصير والاستقلال على ترابه الوطني كاملا بما في ذلك الصحراء التي صرح بشأنها بومبيدو سابقا بقوله ( قضية الصحراء لا نقاش فيها ) وبموجب هذه الاتفاقيات استرجع الشعب الجزائري سيادته واستقلاله بعد استدمار بغيض لمدة 132 عاما متواصلة من القهر و الإبادة. دبلوماسية الجزائر الدولة بعيد استرجاع السيادة الوطنية وبوهج الثورة المنتصرة انخرطت الجزائر في منظومة العلاقات الدولية بانضمامها إلى هيئة الأمم المتحد يوم 8 أكتوبر 1962 وهو ما أصبح يعرف باسم يوم الدبلوماسية الجزائرية، وقبلها الانضمام الى جامعة الدول العربية في أوت 1962. خاضت الدبلوماسية الجزائرية معارك شرسة في إطار دمقرطة العلاقات الدولية واقامة نظام اقتصادي دولي جديد انطلاقا من مبادئ سياسة الجزائر الخارجية التي هي امتداد لرؤية دبلوماسية الثورة ونذكر من بين هذه المبادئ على وجه الخصوص: حق الشعوب في تقرير المصير عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الشعوب والأمم في السيطرة على ثرواتها ومقدراتها الوطنية. رفض استخدام القوة أو التهديد بها لحل النزاعات الدولية واعتماد الحلول السياسية بالطرق الدبلوماسية. البعد الاقتصادي يشير سجل الدبلوماسية الجزائرية إلى المكانة التي حظي بها البعد الاقتصادي لما له من أهمية قصوى حيث كان صانع القرار منذ البدايات الأولى للاستقلال يرى أنه يبقى شكليا ما لم تتم السيطرة على مقدرات البلاد الاقتصادية ووضع حد لهيمنة الشركات الأجنبية على الاقتصاد الوطني، وترجمت هذه الرؤية في معارك تأميم البنوك والتأمينات وغيرها وصولا الى معركة تأميم البترول التي جرى التخطيط لها بعناية دقيقة الى أن تم الاعلان عن القرار يوم 24 فيفري 1971 هذا القرار الذي تم الاعداد له في سرية تامة، وفي الوقت نفسه تم الأخذ بعين الاعتبار كل ما قد يترتب عنه من تداعيات لا سيما مع دولة الاستدمار السابقة المعنية به مباشرة، وعلى المستوى الدولي عامة، بمعنى الأخذ بكل أسباب النجاح و عدم ترك أي ثغرة للصدفة، ولدعم وتعزيز نجاح معركة تأميم البترول والثروات الوطنية الأخرى و توظيفها في خدمة التنمية الوطنية نقلت الجزائر المعركة على أصعدة متعددة قارية ودولية واغتنمت القمة الرابعة لحركة عدم الانحياز التي استضافتها في شهر سبتمبر 1973 بأن أدخلت البعد الاقتصادي لأول مرة في أجندة الحركة التي كانت بحق من أنجح قمم هذه الحركة إلى حد الآن، وعلى ضوء قراراتها التاريخية ذات البعد الاقتصادي صعدت الجزائر المعركة إلى مستوى أشمل واقترح الرئيس هواري بومدين رحمه الله بصفته رئيسا لحركة عدم الانحياز وكذلك كونه رئيسا للقمة العربية التي احتضنتها الجزائر في شهر نوفمبر 1973 عقد دورة استثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد عقدت هذه الدورة غير العادية بالفعل بتاريخ 10 أفريل 1974 بجدول أعمال : المواد الأولية والتنمية من أجل نحو إقامة نظام اقتصادي دولي جديد، وقد ألقى الراحل بومدين كلمة لايزال صداها إلى اليوم ولاتزال صالحة إلى يوم الناس هذا، من حيث تشخيص الداء والاختلال في العلاقات الدولية بكل أبعادها الاقتصادية والسياسية وغيرها مع اقتراح الحلول المناسبة بغرض التوصل الى نوع من التوازن لإقامة علاقات دولية أكثر عدلا وتكافؤا، وقد توجت هذه الدورة بإصدار وثيقتين هامتين هما اعلان بشأن اقامة نظام اقتصادي دولي جديد وبرنامج عمل من اجل اقامة نظام اقتصادي دولي جديد، وهذا التوجه دعم بدور آخر مشرف ومكمل قامت به الدبلوماسية الجزائرية على مستوى الحوار شمال- جنوب من منظور خدمة أهداف مشروع اقامة نظام اقتصادي دولي جديد. بالموازاة مع كل ما سبق يفصح سجل الذاكرة الدبلوماسية عن جهود لا تقل أهمية تم القيام بها في المجال الاقتصادي في مجموعة ال 77 التي أسست في جنيف عام 1964 وعقدت أول اجتماع رسمي لها على المستوى الوزاري في شهر جوان 1967 في الجزائر العاصمة برئاسة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بصفته وقتها وزيرا للشؤون الخارجية في حكومة الرئيس الراحل هواري بومدين وقد توج هذا الاجتماع بإصدار ميثاق الجزائر الذي يعتبر خارطة طريق ومنهاج عمل المجموعة، وبمناسبة الذكرى ال50 لتأسيس هذه المجموعة وبالتزامن مع اجتماع وزراء خارجية حركة عدم الانحياز في 30 ماي 2014 في الجزائر عقد اجتماع تنسيقي بين الحركة ومجموعة ال 77 على المستوى الوزاري للتأكيد على ضرورة مواصلة المشوار وطول النفس من أجل اقامة علاقات دولية متوازنة لخدمة مصالح كل الاطراف ومحاولة التخلص من وضع هيمنة بعض القوى الدولية الكبرى على مقاليد الامور. الموقف من حركات التحرر العالمية أما على مستوى الموقف من حركات التحرر العالمية فمن يتصفح سجل الدبلوماسية الجزائرية تبهره جولات و صولات ممثلي هذه الدبلوماسية المستمدة أصالتها في التحرر من نبع ثورتها المجيدة في مساندة حركات التحرر و دعم حق الشعوب في تقرير المصير في كل أنحاء العالم ولا سيما في إفريقيا و آسيا و أمريكا اللاتينية وغيرها، وكذلك مناهضة سياسات الميز العنصري، فسيشعر بالفخر والاعتزاز لانتمائه لهذه البلاد العريقة، ويجد أنها لا تكيل بمكيالين اذا تعلق الامر بحق الشعوب في تقرير المصير والتحرر في القارات الخمس سواء بالنسبة لقضية الصحراء الغربية أو تيمور الشرقية أو غيرها وقبلهما حركات تحرر عديدة كانت مكاتب تمثيلها منتشرة في كل ربوع وأحياء الجزائر العاصمة، وما تزال قضيتا فلسطين والصحراء الغربية تحتلان مكانة الصدارة في أجندة الدبلوماسية الجزائرية على كل المستويات الدولية الثنائية أو متعددة الأطراف بدون كلل أو ملل رغم الضغوطات الدولية الكبيرة الى يومنا هذا، ومن يراهن على الزمن لتغيير موقف الجزائر فهو واهم وسيطول اتظاره. أما بخصوص موقف الجزائر من سياسة الميز العنصري في جنوب إفريقيا فقد تميز بالدعم والمساندة لشعب جنوب إفريقيا و ثوراته بقيادة حزب المؤتمر الوطني ورمزه التاريخي الزعيم نيلسون مانديلا في نضاله ضد الابارتايد وهيمنة أقلية بيضاء على مقاليد الأمور وخيرات شعب جنوب افريقيا، وهنا يجدر التذكير بأن مواقف الجزائر ممثلة في وزير خارجيتها وقتها السيد عبد العزيز بوتفليقة ما تزال ساطعة ومشرفة في الدورة ال 29 للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974 التي قادها بحكمة كبيرة، وتم خلالها اتخاذ قرارات دولية مهمة لايزال صداها حتى اليوم وهي قرار طرد نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا من منظمة الأممالمتحدة وكل الهيئات التابعة لها والذي ظل ساري المفعول حتى ازالة نظام الميز العنصري عام 1990 وإقامة نظام ديمقراطي كان اول رئيس له الاسطورة مانديلا، أما القرار الثاني الذي لا يقل أهمية فهو إدخال رئيس منظمة التحرير الفلسطينية إلى هذه الدورة التي ألقى فيها مرافعته المشهورة حول القضية الفلسطينية والتي من بين ما جاء فيها :"لقد جئتكم رافعا غصن زيتون وبندقية الثائر فلا تتركوا غصن الزيتون يسقط من يدي "، ولا تزال دبلوماسية الجزائر بتوجيه من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على العهد باقية في دعمها ومساندتها اللامشروطين للقضية الفلسطينية، وخير دليل الموقف الأخير الرافض لقرار الرئيس الأمريكي رونالد ترامب الذي يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتجلى ذلك في مداخلة وزير الشؤون الخارجية عبد القادر مساهل في الاجتماع الاستثنائي لمجلس وزراء خارجية الدول العربية بالقاهرة يوم 9 ديسمبر الجاري، وفي بيان وزارة الشؤون الخارجية الذي وصف هذا القرار بالخطير واعتبره انتهاكا صارخا لقرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية، مع التشديد في الوقت نفسه على الدعم الكامل والثابت لحقوق الشعب الفلسطيني. وفيما يتصل بقضية الصحراء الغربية فإنها هي الأخرى كما أشرنا سابقا تحتل مكانة هامة في أجندة الدبلوماسية الجزائرية بوصفها قضية تصفية استعمار تندرج هي الأخرى مثل فلسطين في إطار حق الشعوب في تقرير مصيرها ودعم الدبلوماسية الجزائرية لها ولفلسطين بكل الوسائل الممكنة أمر لا جدال فيه رغم الضغوطات الدولية الكبيرة التي تصل حد التهديد، إلا أن الجزائر بقيت وستظل وفية لمبادئ سياستها الخارجية ولا تكيل بمكيالين في سياقات وتحولات اقليمية ودولية شديدة التعقيد وآخرها الجهود الكبيرة التي بذلتها الدبلوماسية الجزائرية حيث أفشلت من خلالها بدعم بعض الدول الافريقية كل محاولات المملكة المغربية المسنودة من بعض القوى الدولية لحرمان الجمهورية العربية الصحراوية من المشاركة في قمة الاتحاد الأوروبي – الاتحاد الافريقي في مدينة أبيدجان بكوت ديفوار يومي 29، 30 نوفمبر 2017 حيث في آخر الأمر شارك وفد الجمهورية العربية الصحراوية بقيادة الرئيس ابراهيم غالي جنبا الى جنب مع ملك المغرب. ومما سبق فان دور الجزائر في مساندة حركات التحرر قد سجل بأحرف من نور ومن ذهب وكان ولا يزال محل كل التقدير والامتنان على مستوى العالم، وهنا وفي مجال الذاكرة يمكن التنويه بمقولة الزعيم الثوري الغيني أميلكار كابرال (اذا كانت مكة قبلة المسلمين، والفاتيكان قبلة المسيحيين، فان الجزائر تبقى قبلة الأحرار والثوار)، وهو بهذه المقولة الخالدة قد لخص بصدق ما تمثله الجزائر بالنسبة لأحرار القارة الافريقية والعديد من حركات التحرر في العالم، و في السياق ذاته يندرج قول الرئيس الراحل هواري بومدين (نحن مع فلسطين ظالمة أومظلومة ) وهذا القول الحاسم لايقتصر على فلسطين فقط وإنما هو اسقاط على كل الثورات التحررية على المستوى الدولي. وهنا لا بد من لفت الانتباه الى أن سجلات ذاكرة الدبلوماسية الجزائرية تشير بوضوح الى أن هذه المواقف الثابتة والمشرفة قد جلبت لبلادنا الجزائر متاعب سياسية دولية كثيرة وضغوطات متعددة بغرض دفعها للتخلي عن مواصلة الدعم لحركات التحرر في العالم، ولكنها آثرت مصالح الشعوب المقهورة على مصالحها الآنية وانسجمت مع مبادئ سياستها الخارجية الى يوم الناس هذا. التعامل مع مستجدات الاوضاع والأزمات الاقليمية والدولية ومما سبق فان تعاطي دبلوماسية الجزائر وبتوجيهات من رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقه مع أزمات دول الجوار وغيرها لحماية الوطن من تداعياتها السلبية، كان ولا يزال انطلاقا من مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية واعتماد الحلول السياسية لحل هذه الأزمات لأن الجزائر زيادة على تمسكها بما جاء في المواثيق الدولية بخصوص أهمية الالتزام بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، فإن هذا المبدأ يعتبر ركنا أساسيا في سياستها الخارجية واعتماد هذا المبدأ في سياسة الجزائر الدولة المستقلة لم يأت من فراغ وإنما يعود إلى ميراث الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر المجيدة، حيث ألزم قادة الثورة أنفسهم بعدم التدخل في شؤون الآخرين وبالتالي عدم السماح للدول أو المنظمات أو غيرها بالتدخل في شؤون الثورة ولم تكن الأمور سهلة، لكن قيادة الثورة تمكنت برؤية متبصرة من التوفيق بين المعادلات الصعبة وجعل الثورة في منأى عن تدخل الآخرين في شؤونها أو إقحام نفسها في شؤونهم مما زادها احتراما وأكسبها دعما مهما. التذكير بأن عدم التدخل في الشؤون الداخلية لا يعني الوقوف موقف المتفرج أو اللامبالاة إزاء ما جرى و يجري في فضائنا الجيو سياسي بدليل أن الجزائر الواعية بمصالحها الوطنية والحافظة لالتزاماتها الدولية تتحرك في كل الاتجاهات وتعاملت ولا تزال مع الأزمات القائمة في جوارها برؤية استشرافية للمساعدة على إيجاد الحلول النهائية، لما لذلك من أهمية بالنسبة لأمن بلادنا والحفاظ على مصالحها الوطنية. التشديد على أنه مع مرور الأيام فان القوى الدولية التي سبق لها وأن غلبت لغة السلاح واستخدام القوة لحسابات تخصها (في مالي وليبيا على سبيل المثال) قد اعترفت بصحة ومصداقية المقاربة الجزائرية وتعاطي دبلوماسيتها مع الأزمات الدولية باعتماد الحلول السياسية كخيار وحيد، وتأكد لها أهمية دور الجزائر في معالجة الكثير من القضايا مثل الأزمات التي تمر بها بعض الدول المجاورة،وتحذيرها المسبق من مغبة التدخلات العسكرية الأجنبية، وما ينجر عنها من كوارث وإرهاب وانتشار مذهل للأسلحة والمخدرات والجرائم العابرة للقارات، وهو أمر أصبح ظاهرا للجميع الآن، لكن صانع القرار في الجزائر بقيادة الرئيس بوتفليقه كان قد أدركه واستشرف مخاطره في وقت مبكر وحذر من تداعياته، ومن هذا المنظور تعاملت الدبلوماسية الجزائرية مع أزمات دول الجوار ( مالي، ليبيا، على سبيل المثال ومرافقة التحول في تونس ) وكذلك الأمر بالنسبة للازمات الحاصلة في المشرق العربي ( سوريا، اليمن).وهذا ما اعترف به المجتمع الدولي الذي أشاد في اكثر من مناسبة بدور الجزائر في دعم الاستقرار والأمن الإقليميين. مما سبق يمكن القول أن الجزائر قد تحركت وما تزال لمعالجة الأزمات المشار إليها ولا سيما دول الجوار انطلاقا من: المحافظة على الوحدة الوطنية للبلد المعني،الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، عدم إقصاء أي طرف باستثناء من صدرت في حقهم قرارات من الأممالمتحدة صنفتهم في خانة الإرهاب. أهمية التفاهم والتوافق بين كل الفرقاء سواء في الحكم أو المعارضة وإصلاح ذات البين وترك الشعب يقرر ما يراه مناسبا لأن أي تغيير في هذا البلد أو ذاك هو من صلاحيات الشعب المعني وفقا لمصالحه وأوضاعه وظروفه. وفي الخلاصة يمكن التأكيد على أن التوفيق بين المصلحة الوطنية ومبادئ السياسة الخارجية والضغوطات الدولية الكبيرة في عالم مضطرب ليس بالأمر الهين لأنه يحتاج إلى خبرة كبيرة وحكمة متبصرة جسدها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في توجيه الدبلوماسية للتعامل مع التحولات والأزمات المعقدة التي تعرفها منطقتنا والعالم والتي تعود إلى جملة مركبة من الأسباب الداخلية والأبعاد الإقليمية والدولية، ومن هذا المنطلق فقد عملت الجزائر وتعمل من مبدأ ترتيب الأولويات لحماية سيادتها وتكريس استقرارها في محيط ملتهب وهو ما يتطلب إمكانات كبيرة للقيام بما يلزم لتأمين حدودها وسلامة ترابها والسعي لإعادة الأمن والاستقرار في دول الجوار المتأزمة، وهنا لا بد من توجيه تحية تقدير وتبجيل الى قوات الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني وكل اسلاك الامن على المجهودات الجبارة التي تبذل على مدار الساعة حفاظا على الجزائر وطنا وشعبا لا سيما من تداعيات الأزمات المعروفة المحيطة ببلادنا لتبقى عزيزة شامخة وآمنة مستقرة. وفي الاخير يمكن التأكيد- خاصة بالنسبة للشباب- أن صحائف سجلات ذاكرة دبلوماسية بلادنا الجزائر تدعو إلى الفخر و الاعتزاز بالانتماء إلى مبادئ ثورة نوفمبر المجيدة و السير على دربها في الجزائر المستقلة الجديدة ورفع الهامات عالية أمام كل العالم، كما أغتنم هذه المناسبة الطيبة لدعوة الباحثين و الأساتذة الأكاديميين إلى القيام ببحوث تؤصل للمنجزات الكبيرة لدبلوماسية بلادنا سواء تعلق الأمر بالثورة أو بدبلوماسية الجزائر المستقلة من استرجاع السيادة الوطنية الى التعاطي مع مختلف المستجدات والتحديات التي يعرفها عالم اليوم اقليميا ودوليا، حتى تكون نتائج الدراسات والأبحاث في متناول الجميع، ولا سيما الاجيال الجديدة. محاضرة القيت في الملتقى التاسع حول حياة الرئيس الراحل هواري بومدين بمدينة قالمه يومي 27 و28 ديسمبر 2017.