تعرف الجزائر تزايدا كبيرا في عدد الإصابات بالأمراض المزمنة على اختلاف أنواعها إلى أن بلغت 8 مليون مصاب، حسب تصريحات رئيس شبكة جمعيات الأمراض المزمنة عبد الحميد بوعلاق. وعلى قدر هذا التزايد ظهرت إشكالية أمام الأطباء لدى تأدية مهامهم تتمثل أساسا في طريقة نقل خبر الإصابة للمريض أو لعائلته لأول مرة أمام رفضهم تقبل الفكرة وكذا رفضهم الحصول على الإعانة النفسانية، وهذا من منطلق قلة الوعي ووضع الأخصائي النفساني في نفس مرتبة أخصائي الأمراض العقلية، حسب ما ذهب إليه غالبية من التقت بهم ''الحوار'' من أطباء عامين ومختصين وكذا بعض الحالات من المرضى. يرفض المرضى تقبل فكرة إصابتهم بأحد الأمراض المزمنة مهما كان نوعها ومهما كانت درجة حدتها، وبدل الرضوخ للأمر الواقع ولمشيئة الله يضع المريض طبيبه المعالج في موقف يتمثل نفسه فيه كالجلاد فيضطر إلى لعب دور الطبيب النفساني بلجوئه إلى أساليب خاصة في إقناعه لتقبل إصابته وكيفية التعايش مع مرضه، في ظل تحسن التكفل الصحي بالمرضى في المستشفيات. من المرض العضوي إلى المرض النفسي يعاني العديد من المرضى بالجزائر إضافة إلى أمراضهم العضوية من قهر الوساوس التي تتحول لدى مجموعة لا بأس بها إلى أمراض نفسية، على رأسها الاكتئاب الناجم عن جهل مرضهم ونظرة المجتمع ومفاهيمهم الخاطئة له وكذا تفكيرهم في كيفية التعايش مع حياتهم الجديدة ومواجهة التكاليف المرتفعة للعلاج ورحلة الذهاب والإياب اللامتناهية بين الأطباء ومراكز التحاليل الطبية والصور الإشعاعية، مع تدهور القدرة الشرائية وظروف المعيشة ولاسيما مع ارتفاع نسبة البطالة لدى فئة المرضى المزمنين ما يعني أنهم غير مؤمنين اجتماعيا. نادية صاحبة ال 40 سنة تقول إنها بعدما تلقت نبأ إصابتها بسرطان عنق الرحم، أصيبت بصدمة نفسية عزلتها عن المجتمع، ''لم أشك يوما أنني قد أصاب بهذا المرض الخبيث خاصة وأنني أم لثلاثة أطفال، وفي إحدى المرات وأنا أجري الفحص الدوري لدى طيبة أمراض النساء والتوليد أفصحت لها عن شعوري ببعض الأعراض التي سريعا ما أخبرتني أنها ربما تكون أعراض وجود ورم خبيث على مستوى الرحم وأنها لن تتمكن من التأكد من ذلك إلا بإخضاعي لمجموعة من التحاليل وصور الرنين الباطني والمسح الصوري، فأجريت كل ما طلبته مني فحوصات أكدت جميعها إصابتي بسرطان عنق الرحم، لم أتقبل الفكرة وأغمي علي لحظة تلقيت الخبر فحاولت الأخصائية جاهدة ودون فائدة طمأنتي أن إمكانية شفائي كبيرة جدا مع تطور العلم والتقنية وكذا وجود نخبة جيدة من الأخصائيين على مستوى مركز مكافحة السرطان بيير وماري كوري وأن كل هذا يرفع من إمكانية شفائي لأن تشخيص مرضي جاء في مراحله الأولى. حاول جميع أفراد عائلتي وعلى رأسهم أبنائي الرفع من معنوياتي، غير أن جهودهم باءت بالفشل فقد كنت قد أصبت بصدمة نفسية ونصحتني طبيبة أمراض النساء بالتوجه إلى أخصائي نفساني يؤهلني لتقبل الفكرة وتجاوز المرحلة، ومن ثم مباشرة العلاج بمركز مكافحة السرطان، فهاجسي الأول كان خوفي من الموت وأن يصبح أبنائي يتامى، ونصحتني أن أباشر العلاج النفسي على مستوى نفس المركز الذي يهتم بالتكفل النفسي بمصابي السرطان باعتباره جزءا هاما ومساعدا على الشفاء، ولم أتمكن من تجاوز محنتي وحالة الاكتئاب التي كنت فيها لولا مساعدة الأخصائية النفسانية''. أما السيدة ''ن.م'' 48 سنة مصابة بالتهاب الكبد الفيروسي من النوع ''س''، فتقول'' أنا ممرضة إلا أن عملي هذا لم يجعلني بمنأى عن الصدمة النفسية لدى إبلاغي من طرف الطبيب أنني مصابة بهذا الداء، وحتى مع معرفتي جيدا أن التهاب الكبد الفيروسي يعد من بين الأمراض المزمنة التي يمكن التعايش معها، لم أستطع معاودة حياتي الطبيعية إلا بفضل الدعم المعنوي والنفسي من قبل جمعية ''أس.أو.أس إيباتيت'' وخاصة نائبة الرئيس الدكتورة زهية بكة الذي مكنني من استعادة ثقتي بنفسي وإرادتي في تحقيق أهدافي في الحياة بأمل كبير في الشفاء''. السيد محمد 50 سنة، موظف، لازال رافضا فكرة إصابته بمرض السكري مشككا في ذات الوقت في نتائج التحاليل، واضعا فريقا كبيرا من الأخصائيين في معالجة هذا الداء في حيرة لإقناعه أنه أصبح في عداد المليوني ونصف المليون مصاب المسجلين عبر الوطن والذين يعيشون بصفة طبيعية، يقول محمد: ''تقدمت إلى مؤسسة الصحة الجوارية القبة العناصر منتصف هذا الشهر من باب الفضول بعدما علمت أنها تنظم أبوابا مفتوحة حول السكري، واقتربت من الفريق شبه الطبي الذي كان يجري الفحص للمواطنين وكانت دهشتهم كبيرة بنتيجة الفحص فقد اتضح أن نسبة السكر في دمي بلغت 4 غرام ولما لاحظت الدهشة على وجوههم إلى درجة إطلاعهم وعلى جناح السرعة الأخصائيين الذين أكدوا لي بعد معاودة الفحص أن النتيجة صحيحة وأنني مصاب بالسكري، رفضت تصديقهم وقلت لهم بصريح العبارة انتم تكذبون فلا احد من أفراد عائلتي أصيب سابقا بهذا المرض ولم أشعر يوما بأي من الأعراض الشائعة عن هذا الداء، وطلبوا مني أن أتقدم إلى الفحص الدقيق في أقرب الآجال لأن حالتي الصحية في خطر لأنني أشكو من سكري الفئة الثانية وأحتاج إلى تتبع العلاج عن طريق حقن الأنسولين حتى أتمكن من خفض معدل السكري في دمي وإن لم أفعل ذلك قد أتعرض للتعقيدات الصحية والوقوع ضحية أمراض أخرى ناجمة عنها كالفشل الكلوي أو العمى أو حتى بتر أحد الأعضاء السفلية في حال جرحت ولم أتلق العناية اللازمة''. وأضاف محمد ''لازلت رافضا إصابتي وما زاد من إصراري على الرفض الطريقة التي تلقيت بها النبأ فالأطباء حاولوا من خلال مصارحتي بالعواقب التي قد تحدث في حال عدم خضوعي لمتابعة طبيب مختص، أرادوا مصلحتي إلا أنهم زرعوا في نفسي إحباطا كبيرا وخوفا من مصير مجهول لأني رب عائلة وماذا سيحل بأبنائي وزوجتي لو توفيت بسبب هذا المرض''. يتقبلون إصابة الذكر وينكرون إصابة الأنثى يتمسك الجزائريون بعاداتهم ومعتقداتهم البالية حتى مع التطور الذي شهده المجتمع والذي أثر على منظومة قيمه، فلا مانع مثلا بالنسبة لديهم أن يصاب الذكر بمرض مزمن ما ، في حين لا يتقبل الأهل فكرة إصابتهم إحدى بناتهم، هذا ما أكدته الأخصائية النفسانية ''ب. فتحية''، وكشفت من خلال تعاملها المستمر والدائم مع الأطفال على مستوى الروضة التي تعمل بها ببلدية القبة، أنها تلاحظ أعراض الأمراض النفسية على بعض الأطفال كحب الانزواء والانطواء، الكآبة والعبوس الدائمين، والتصرفات العدوانية في حالات نادرة كردة فعل دفاعية، وصرحت قائلة ''عند ملاحظتي مثل هذه الأعراض أسارع إلى مساعدة الطفل على تجاوز حالته والخروج منها أولا ثم بحث أسبابها بهدف تجنيبه الوقوع فيها مجددا، فاكتشفت ولأكثر من مرة أن السبب الأول لأوضاعهم تلك وخاصة الفتيات، هي في الغالب الإصابة بأحد الأمراض المزمنة فينصحهم الأهل بعدم إجهاد أنفسهم أو إطلاع باقي زملائهم بمرضهم لأنهم لن يتفهموا الوضع وسيعايرونهم به وبالضبط إذا ما أصيبوا بإحدى الأزمات أمامهم، ما يجعل هؤلاء الأطفال انطوائيين. ولدى استفساري عن سبب هذا السلوك من قبل الأهل الذين ينتمون في الغالب إلى الطبقة المتعلمة والمثقفة، أضافت ''فتيحة'' اتضح أنهم بدورهم لا زالوا مصدومين نفسيا وغير متقبلين تماما فكرة إصابة أحد أبنائهم بمرض مزمن، وأن هذا الرفض يزداد لدى أهالي الفتيات أكثر منهم لدى أهالي الذكور، معتبرين أن إشاعة خبر إصابة الفتاة بمرض ما في محيطها الأسري والمدرسي يقلل من حظوظ زواجها مستقبلا، فسيرفض الجميع التقدم لها تخوفا من نقل المرض لأبنائها مستقبلا و عدم قدرتها على رعاية زوجها وعائلتها بطريقة عادية لضعف بنيتها الجسدية والصحية''. زغلامي: أخصائيتنا النفسانية غادرت المؤسسة كشفت الدكتورة زغلامي مديرة المؤسسة العمومية للصحة الجوارية القبة- العناصر، أن المرضى الذين يقصون مؤسستها لمتابعة حالتهم الصحية من المصابين بالأمراض المزمنة وخاصة مرضى السكري، يرفضون رفضا تاما الخضوع لجلسات العلاج النفسي لدى الأخصائية التي كانت متواجدة بها، وكلما طلب أحد الأخصائيين من مريض ما لاحظ عليه علامات الصدمة النفسية بالتوجه إلى مكتبها، يرد عليه أنه ليس مجنونا ليعرض نفسه على طبيب نفسي، فالجزائريون، قالت زغلامي، يخلطون بين طب النفس والطب العقلي، وبدل سعيهم إلى التغلب على المرض بتغيير أسلوبهم في الحياة نحو الأفضل، يفضلون وبعد فترات طويلة من تلقيهم نبأ إصابتهم بالمرض تحميل المسؤولية للقدر والمكتوب ويستمرون في العيش بكآبة وحزن. وعندما تسأل احدهم عن حالته يجيبك ''رانا انطبعوا''، ''هاداك ما كتب الله'' وهو يطلق تنهيدة عميقة تدل على رفضه الحقيقي لمرضه وتأسفه على حالته. وأمام رفض الجميع عرض أنفسهم عليها قررت الأخصائية النفسانية التابعة للمؤسسة مغادرتها مفضلة التعامل مع الأطفال على مستوى المدارس فلربما ستتمكن من تغيير وجهة نظر جزء من الجيل الصاعد للوضع. حبيتوش: لا نستعين بالأخصائي النفساني إلا في مرحة أخيرة أوضح الدكتور حبيتوش مختص في علاج مرض السكري على مستوى دار مرضى السكري بالعناصر، أنه وزملائه من العاملين بالدار يحاولون قدر المستطاع استخدام أساليب مدروسة في التعامل مع المرضى خاصة الحالات الجديدة التي تكون رافضة تقبل إصابتها، مضيفا أن هذه الحالات تكون في الغالب جاهلة تماما هذا المرض وأنها الأولى في العائلة فلم يسبق لأي شخص من أفراد العائلة أن أصيب به سابقا، موضحا أنه وقبل الإعلان الرسمي للمريض عن إصابته نحاول أولا تقديم درس صغير وملخص عن المرض، أسبابه، كيفية التعايش معه، وتجنب التعقيدات الصحية، وطرق أخذ العلاج والتغذية الصحية، حتى نطمئنه أنه ليس بالمرض المعدي ولا الخطير إذا ما تقيد بالنصائح والتعاليم، فنؤدي دور الطبي النفساني، ولا نستعين به إلا في الحالات المستعصية والتي نسجلها إذا ما كان المصاب طفلا صغيرا فيحتاج وعائلته إلى الدعم المعنوي، والحالات التي واجهناها من هذا النوع طيلة حياتنا المهنية لا تعد ولا تحصى، وينجح الأخصائيون النفسانيون في تقديم يد المساعدة لها بغرس الثقة فيها وحثها على التعرف على المرض لتتمكن من مواجهته والتغلب عليه، إلى درجة أصبحت فيها هذه الحالات خبيرة أكثر منا في أنواع الأدوية وأعراضها الجانبية ومضاعفاتها، فكما يقول المثل الشعبي'' سال المجرب ولا تنسى الطبيب''.