الأمل نوعان محمود ومذموم، فأما المذموم فهو الذي يلهيك عن الأخذ بحظك من طاعة الله عز وجل في الدنيا، ويجعلك مشغولا فيها وبها فقط. وأما المحمود فهو تلك الشعلة الوضاءة المنبعثة من أعماق النفوس الكاسفة والقلوب الحزينة المسرفة، تضيئ لها الدروب المظلمة في الحياة وتأخذ بها إلى بر النجاة. وهذا النوع من الأمل إن فقد في بعض الأوقات بسبب الغشاوة التي تحجبه والظروف التي تأسره، فذلك لا يعني فقده إلى الأبد وزواله بلا رجعة ولامرد، بل الحق في ذلك أنه ملك أو منحة قابلة للإستعادة، متى ارتفعت الغشاوة التي تحجبه، وكسرت أصفاد الظروف التي تأسره وتمنعه من صاحبه الكاسف البال والفاسد الحال، ولكن كيف وأنى ومتى وهل يستطيع فاقد البصر السير في الطريق الشائكة لوحده بلا دليل أمين يقوده وعن الحفر والأشواك يمنعه؟ وهل الأمل بالنسبة للقلوب إلا كالبصر بالنسبة للأجساد؟ أليست القلوب تبصر بالأمل كما تعرف الأجساد طريقها بالبصر؟ بلى، الأمر كذلك مع وجود فارق صغير بين فاقد البصر وفاقد الأمل، حيث أن الأول لم يفقد شيئا إذا ملك الأمل، والثاني لم يملك شيئا حيث فقد الأمل، فكم من أعمى تعلمنا منه الأمل، وكم من مبصر يائس لا ترى منه إلا الملل. جلست إلى رجل كفيف تربطني به قرابة مصاهرة، وتبادلنا أطراف الحديث الذي كان شيقا وممتعا، حتى أنه لسرعة مضيه كأنه لم يكن، وكان مما أدهشني من حاله أنه يقوم كل يوم على الخامسة صباحا فيتوكل على مولاه ويخرج من مأواه يمسك عصاه بيمناه ومحفظته بيسراه، لا فرق عنده بين تأخر ظلمة ليل الشتاء ولا إبكار نور الصباح في الربيع ومدخل الصيف، يخرج لوحده فيمشي على قدميه مسيرة ساعة تقريبا، ثم يتنقل من حافلة إلى أخرى حتى يصل إلى مقر عمله بمدينة العاشور، حيث يعمل مدرسا للغة الإنجليزية التي يتحدثها بطلاقة وذربة لسان، وهو على هذه الحال سنين عديدة وأعواما مديدة، لا يئن ولا يشتكي من طول الطريق وتعب المواصلات وانعدام البصر والمعين من البشر وقلة ذات اليد، فهل يطيق هذا الحال مبصر مثلي؟! اللهم لا تؤاخذنا بيأسنا وقنوطنا ولا تحرمنا الأمل في فضلك ورحمتك. ومما أدهشني من حال هذا الرجل الكفيف همته العالية وإصراره على التعلم، فهو يتحدث العربية الفصيحة، ويتقن الإنجليزية ويجيد الفرنسية ويريد تعلم الإسبانية لو وجد من يعينه ويعلمه، كما أنه يحفظ أجزاء من القرآن ويجيد تلاوته، وكم كان المشهد مؤثرا وهو يجلس بجانبي يرتل سورة الرحمن من مصحفه بواسطة أصابعه لا يخطئ ولا يتتعتع كتتعتع الكثير من المبصرين الذين يقرؤون القرآن محرفا ومليئا بالأخطاء! والأعجب في كل هذا أن للرجل مزرعة صغيرة قرب بيته، يقوم عليها بنفسه، يقلب تربتها، ويشق أثلامها ويغرس غراسها ويجود بجناها على الجيران والأحباب. وآخر العجب أنه يصعد على سطح منزله إذا ما تكسرت قرميدة فينزعها ويستبدلها بغيرها، وقد صدق الله عز وجل إذ قال: ''فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور''، كقلب ذلك الشاب الغر اليائس الذي قابلته في السجن حين ذهبنا لحراسة المساجين الممتحنين في شهادة نهاية التعليم المتوسط، وقصته باختصار أنه شاب بلغ به اليأس مبلغا كبيرا بعد أن وجد نفسه غير قادر على الإجابة، وبالتالي فإن فشله في هذا الإمتحان سيحرمه من الحصول على تقليص مدة العقوبة la grâce فراح يصيح ويتفوه بعبارات نابية فيها كفر صريح بالله عز وجل، منكرا أن يكون للكون رب عادل موجود وأنه لو كان الأمر كذلك لما كان هو في السجن، ومما جنى به على نفسه أنه قال: ألم يجد هذا الرب سواي يأتي به إلى السجن!!!، مع أنه ما جاء به إلى السجن إلا أفعاله المشينة، بل راح يحلف بالله أن الله غير عادل ولاموجود في تناقض صارخ وفي حالة هستيرية أقرب ما تكون إلى الجنون منها إلى العقل والرشاد، فانظر إلى حال هذا الشاب كيف أدى به اليأس وفقدان الأمل في الله عز وجل إلى الكفر وسب الخالق المتفضل عليه بالنعم، وفي أمثاله نتلو قوله عز وجل: ''إنه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون'' . فانظر إلى اليأس كيف يؤدي بالإنسان إلى الكفر وكفى به ذنبا عظيما، وانظر إلى الأمل فيما سبق كيف يحول المصائب والمحن إلى مستثمرات للسعادة والحياة المطمئنة وهكذا هو الأمل المحمود، رزقنا الله إياه ونجانا مما سواه